من الذي فكّك بلدان المشرق وجعل أرضها مشاعاً؟
حازم صاغية
في الهزائم الكبرى التي منيت بها بلدان المشرق في العصر الحديث، لم تُطرح الوحدةالترابيّة للبلدان المذكورة ولم تتعرّض للمساءلة. والحال أنّ العكس أقرب لأن يكونصحيحاً.
فبعد هزيمة 1948، وكانت تلك البلدان حديثة العهد، تحتفي بجِدّتها واستقلالاتها،قامت انقلابات عسكريّة قال أصحابها إنّهم أرادوا تصحيح مسارات الدول وجعلها أقوىمن أن تُهزم. وفي موازاة الانقلابات ظهرت، لا سيّما في سوريّة، أفكار وأحزاب دافعروّادها عن دول تتقوّى بها دولتهم وتكبر، وفي السياق هذا تُحرِّر فلسطين.
ثمّ في هزيمة 1967، اقتُرحت بدائل كثيرة عن الوضع القائم، منها «العودة إلى الدين»،وإجراء تحوّلات في القيادات الاجتماعيّة للأنظمة. إلاّ أنّ البلدان نفسها، إن بالعلاقاتبين جماعاتها أو بحدودها الترابيّة، ظلّت بمنأى عن التشكيك.
مع هذا فتحت الهزيمة الثانية، على عكس الأولى، كوّة ما لبثت أن اتّسعت، في جدارالوحدات الوطنيّة المعلنة. هكذا ظهرت محطّات تأسيسيّة للوجهة هذه جسّدها«اتّفاق القاهرة» في 1969 الذي جزّأ السيادة اللبنانيّة وأرضها، ثمّ اندلعت الحربانالأهليّتان في الأردن ولبنان عامي 1970 و1975. وبمعنى ما، كانت هاتان الحربان منبنات الوعود المتضخّمة لعبد الناصر وحزب البعث والتي سريعاً ما آلت إلى إخفاقفضائحيّ. ثمّ، في موجة ثانية من تصدّع الوطنيّات، اكتسب ردّ المعارضات على الطغيانالبعثيّ في سوريّة والعراق ألواناً مذهبيّة من طينة الألوان التي تلوّنَ بها الطغيان الحاكمللبلدين. ومنذ 1979 شكّلت الخمينيّة الإيرانيّة، بمذهبيّتها وبمبدئها في «تصديرالثورة»، كنَفاً يحيط بوجهة التذرّر العريضة للمشرق. وفي الموازاة تطوّر قضم البلدانوالسيادات الذي باشرته سوريّة البعثيّة حيال لبنان ليغدو غزواً كامل الأوصاف أقدمعليه العراق البعثيّ حيال الكويت.
وعاماً بعد عام، راح ينتقل ما كان يصيب الأقلّيات الدينيّة والإثنيّة، كالكرد والأشوريّينواليهود العرب، من الأطراف والهوامش إلى المراكز والمتون، بوصفها «سياساتقوميّة» معلنة أو مسكوت عنها.
وقد يرى قائل، وبحقّ، إنّ ما غذّى الوجهة هذه تغيّرٌ في العالم ليس لصالح الدولالوطنيّة، سبقه انتهاء الحرب الباردة بوصفها ضامناً لثبات بعض الخرائط، وإن لم يكنلكلّها. مع هذا يبقى الأساس هو الفشل الذي مُنيت به تجارب البلدان إيّاها وهي تُزَجّ فيسياسات راديكاليّة.
فشعوبها طولبت بأكثر ممّا تستطيع تحمّله، وعُرّضت وحداتها الهشّة لامتحانات قاسية. وبعدما كانت إسرائيل البلد الوحيد الذي يقترن ذكره، في اللغة السياسيّة العربيّة،بالمحو والإزالة، بِتنا أمام واقع يدقّ أبواب دولنا ويهدّدها، إن لم يكن بالمحو والإزالةفبالقضم والاقتطاع.
لهذا تبقى مراجعة تاريخ التجارب شرطاً شارطاً، إمّا لتصحيح الوحدات القائمة التي تهتزّاليوم، والاحتفاظ بها تالياً، أو لتفكيكها بأكثر الطرق الممكنة تمدّناً وأقلّها دمويّة. بيد أنّمراجعة كهذه تبقى ناقصة وعرجاء ما لم يرافقها تسجيل الحقيقة الكبرى التي يتجاهلهامعظم الثقافة السياسيّة السائدة في المشرق. ذاك أنّ تلك الأشكال الكثيرة من تحطيمالدول إنّما أُنجزت باسم «القضايا» على أنواعها، فيما نفّذتها أنظمة آيديولوجيّةعسكريّة وأمنيّة، قوميّة ودينيّة، بالتضامن مع تنظيمات مسلّحة نافست السلطاتالقائمة وطمحت إلى الحلول محلّها. وما هو أمرّ وأدهى أنّ تحطيم الدول وضعفالحساسيّة حيال وحدة الجماعات الوطنيّة كانا جزءاً من أمزجة جماهيريّة عريضةوعريقة. ففي 1958 مثلاً أُهديت سوريّة إلى عبد الناصر، وحين استعادت استقلالها في1961 عومل «الانفصال» بوصفه مدعاة لخجل واسع. وبعد 2003 وإطاحة صدّامحسين، أُهدي القرار السياديّ العراقيّ إلى إيران. أمّا الأفعال الإباديّة التي ارتكبها لاحقاًتنظيم «داعش»، بعد دمجه أراضي سوريّة بأراضٍ عراقيّة، فلم تحظ بإدانات أوسع منالإدانات التي حظيت بها أفعال البعثين الإباديّة بحقّ جماعات عراقيّة وسوريّة.
لقد كانت المرحلة الكولونياليّة ومن بعدها المرحلة الاستقلاليّة لحكم الأعيان مرحلتيتأسيس للدول والأوطان، تخلّلتهما أخطاء ونواقص كثيرة، إلاّ أنّهما لا تندرجان في عمليّةالتفكّك والتفكيك المستولية على المنطقة. وهذا ما يتيح الخروج بمعادلة مفادها أنّوجود الدول والأوطان نفسه، ووفق تجارب لا يُحصى لها عدد، مرهون بأنظمة محافظةحتّى لو كانت استعماريّة، فيما التهديد بالقضم والاقتطاع، أو ربّما الزوال، منوطبالأشكال السياسيّة الموصوفة بـ»التحرّر الوطنيّ» على أنواعه.
واليوم لا يبدو قليل الدلالة أنّ قطاع غزّة، وقبل أن يستكمل خروجه من الجحيمالإباديّ، يجد نفسه وهو يواجه تنازعاً داخليّاً يضاعف الغموض المحيق أصلاً بمستقبلالقطاع. فكأنّ كلّ ما يقال عن وحدة المصير التي تخلقها المعارك المشتركة ضدّ عدوّواحد ليست أكثر من خرافة بالغة الأذى.
وهكذا فحين يقال إنّ إسرائيل تعمل على اقتطاع أراضٍ من البلدان التي تجاورها تكونحزامها الأمنيّ العريض، يبدو الأمر كأنّه سباق على مشاع أو خلاء بلا مضمون سياسيّ،سباقٌ بين دولة أنانيّة متجبّرة وسلطات أنانيّة تتجبّر، وبين الطرفين هذين يُقهر الضحاياالمدنيّون.الشرق الأوسط