الجنوب السوري: واقع جديد يتشكل على حدود الجولان
د.عامر سبايلة
عادت سورية في الأيام الماضية إلى واجهة المشهد الإقليمي، مع اندلاع المواجهات الدامية في الجنوب السوري. والحقيقة أن مثل هذه الأحداث كانت متوقعة، بل وقابلة للتكرار، في ظل استمرار الهشاشة الأمنية والسياسية التي تعانيها البلاد. فمنذ سقوط نظام الأسد، دخلت سورية عملياً في مرحلة من عدم اليقين، نتيجة تفكك التوازنات الداخلية وصعود إدارة “الشرع-الجولاني” إلى الحكم، وسط غياب صيغة حكم قابلة للتطبيق والاستمرار، وتستوعب معظم أطياف المجتمع السوري داخل مؤسسات الدولة.
خلال الأشهر السبعة الأخيرة فقط، شهدت سورية مجازر طالت العلويين والدروز والأكراد، إلى جانب استهدافات طالت المسيحيين، ما يعكس حجم الاختلال العميق الذي يضرب بنية الدولة والمجتمع.
ورغم تعقيدات المشهد الداخلي السوري، تظل الحسابات الإستراتيجية الإسرائيلية في جنوب غرب سورية عنصراً حاسماً في رسم مستقبل هذه المنطقة، إذ تنظر إسرائيل إليها كأساس لترسيخ منطقة عازلة منزوعة السلاح على امتداد حدود الجولان.
وبينما دخلت إسرائيل إلى الساحة من بوابة “حماية الدروز”، فإن هذا التدخل قد يُسهم في تأجيج التوترات الطائفية، وفتح الباب أمام صراع طويل الأمد. لكنه، في الوقت نفسه، بدأ يفرض واقعاً جديداً على الأرض، من الصعب تجاوزه مستقبلاً من دون التوصل إلى تفاهمات فعلية مع المكونات السورية، كالدروز والأكراد، وتفاهمات أوسع مع إسرائيل. وقد وجهت إسرائيل رسائل واضحة للإدارة الحالية في دمشق من خلال ضربات رمزية، توحي بإمكانية تصعيدها لتشمل كامل بنية النظام وربما إسقاطه.
الصراع في السويداء ودمشق مرشح للاستمرار، في ظل غياب خريطة عسكرية واضحة للجنوب السوري، ما يرجّح تكرار الضربات الإسرائيلية للبنية التحتية العسكرية في دمشق ومحيطها.
كما أن حالة عدم الاستقرار الطائفي مرشحة للتفاقم، بفعل انعدام الثقة بين الدروز والعشائر البدوية والحكومة المركزية. وهذا يعزز من احتمالية اندلاع موجات عنف جديدة، خصوصاً أن الأحداث الأخيرة منحت الميليشيات الدرزية هامشاً واسعاً من الاستقلال بحكم الأمر الواقع، وقد يفتح ذلك الباب أمام تلقيها دعماً مباشراً من أطراف إقليمية، باعتبارها لاعباً مستقلاً يمكن التعامل معه مباشرة.
في المقابل، يزيد هذا التعقيد من فرص تحول المنطقة إلى ساحة معركة بالوكالة، خاصة في ظل تطلع حزب الله، المحاصر داخلياً في لبنان، إلى فتح جبهة جديدة ضد إسرائيل، وكذلك الميليشيات الإيرانية التي تأمل بإشغال إسرائيل وتشتيت تركيزها لتخفيف الضغط عن طهران. وقد يجد الطرفان في الجنوب السوري موقعاً مناسباً لمثل هذه المعركة، بسبب قربه الجغرافي وقدرته على تشكيل تهديد فعلي لإسرائيل.
تعكس هذه التطورات هشاشة المؤسسات السورية بوضوح، إذ تعجز الحكومة الانتقالية الجديدة عن فرض سلطتها أو تثبيت شرعيتها في المحافظات المتنازع عليها، وهو ما سيؤدي حتماً إلى توسّع نفوذ الميليشيات وتعزيز الفوضى خصوصاً مع تعاظم قدرات بعض التنظيمات الإرهابية، مع ما يحمله ذلك من تداعيات خطيرة على مستقبل الاستقرار في سورية.
تسعى إسرائيل إلى إنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح على حدودها مع سورية، تُدار من قبل قوى حليفة أو غير معادية، وتحديداً في منطقتي السويداء وجنوب درعا، بهدف احتواء أي تمدد للقوات السورية التابعة للإدارة الجديدة، أو تسلل الميليشيات الإيرانية ووكلاء حزب الله.
إن إضعاف الإدارة السورية إلى هذا الحد يجعلها أكثر قابلية للتماهي مع السياسات الإسرائيلية، بل وربما تقديم تنازلات كبيرة مقابل البقاء، وهو ما ستسعى إسرائيل إلى استغلاله لفرض واقع جديد، لا يقتصر على إعادة رسم الجغرافيا الأمنية، بل يتعداه إلى صياغة سياسية شاملة للواقع السوري تخدم مصالحها بعيدة المدى.
أما أردنياً، فإن هذا الواقع المقلق على طول الحدود الجنوبية يشكّل تهديداً حقيقياً للأمن الوطني الأردني.
فالمسألة لا تتعلق فقط باحتمالات الفوضى أو الاقتتال على الجهة المقابلة من الحدود، بل بمحاولات تغيير الواقع الجغرافي-السياسي للمنطقة بالكامل، وهو ما سينعكس حتماً على عموم البيئة الإقليمية. فارتفاع مستوى التهديد الأمني قد يتوازى مع تهديد سياسي عابر للحدود، خصوصاً أن مكونات الصراع قابلة للانتقال والتصدير، ما يستدعي من الأردن تبني نهج استباقي يحول دون انتقال هذا الواقع بكل أبعاده الأمنية والمجتمعية إلى الداخل.
(الغد)