الفن والإبداع… دواء خفي للصحة النفسية والجسدية
خاص- العقبة اليوم الإخباري
منذ فجر التاريخ، والإنسان يبدع، من الرسومات الحجرية في الكهوف إلى فن المسرح والرسم والرقص، يبدو أن الإبداع متأصل في فطرتنا، نحن لا نبدع فقط من أجل العمل أو الترفيه، بل لأن ذلك ببساطة يجعلنا أكثر إنسانية، وبينما نعلم بصورة فطرية أن الإبداع يمنحنا شعورًا بالسعادة، تؤكد الأبحاث العلمية اليوم أن للفن والإبداع فوائد صحية جسدية ونفسية لا تُقدّر بثمن، كما ذكر تقرير في مجلة (ميدكل نيوز توديه).
الإبداع والصحة النفسية: التعبير كعلاج
أظهرت الدراسات أن الأنشطة الفنية كالرسم، والنحت، والكتابة التعبيرية، تساعد الناس على التعامل مع الصدمات النفسية. فحين يعجز الإنسان عن التعبير بالكلمات عن مرض، أو فقد، أو تجربة قاسية، يمنحه الفن منفذًا آمنًا للتنفيس عن مشاعره.
وفي مراجعة بحثية شاملة نُشرت بعنوان الصلة بين الفن والشفاء والصحة العامة، أوضح الباحثان “هيذر ستاكي” و”جيريمي نوبل” أن الفن يتيح للناس التعبير عن تجارب لا تُقال، مثل تشخيص بالإصابة بالسرطان. بل إن التعبير الفني قد يسهم في إعادة بناء الهوية الإيجابية للفرد بعد الأزمات.
ووجدت دراسات أخرى أن الكتابة، خاصة الكتابة العاطفية حول أحداث صادمة، تساعد على تقبل الأحداث، ودمجها ضمن سردية الحياة الشخصية، مما يمنحها معنى، ويُسهل التعافي النفسي.
الأثر الفوري مقابل الفائدة الطويلة الأمد
صحيح أن التعبير عن التجارب المؤلمة عبر الكتابة قد يؤدي مؤقتًا إلى زيادة في التوتر أو الحزن، إلا أن الفوائد بعيدة المدى لا تُنكر. فقد أظهرت مراجعات علمية أن المشاركين الذين مارسوا الكتابة التعبيرية تمتعوا لاحقًا بصحة بدنية ونفسية أفضل، مقارنةً بمن لم يكتبوا.
وليس من الضروري أن تكون التجربة المؤثرة سلبية؛ فقد وجدت دراسة عام 2001 أن الكتابة عن الذكريات الإيجابية أو عن “أفضل نسخة من الذات في المستقبل” تعزز من الصحة النفسية وتقدير الذات.
الإبداع يعزز القدرات الدماغية
تشير أبحاث إلى أن الكتابة باليد تعزز التعلم والذاكرة بشكل أكبر من الكتابة على الحاسوب. أما الموسيقى، فليست مجرد ترف، بل أداة فعالة في تحسين الاتصال بين نصفي الدماغ. وقد أظهرت مراجعة علمية عام 2014 أن الأشخاص الذين تلقوا تدريبًا موسيقيًا أظهروا وظائف معرفية متقدمة واتصالاً عصبياً أفضل.
وللمسرح أيضًا فوائده. فقد أظهرت دراسة أن المسنين الذين شاركوا في عروض مسرحية لمدة أربعة أسابيع، سجلوا تحسنًا في الحالة النفسية والقدرة على التذكر وحل المشكلات.
الإبداع والصحة الجسدية: علاقة مثبتة
أفاد باحثون أن الأشخاص الذين كتبوا عن تجاربهم المؤلمة تحسنت لديهم عدة مؤشرات صحية، من تقليل زيارات الأطباء، إلى تحسن في أداء جهاز المناعة. ففي دراسة أجريت على مرضى الإيدز، ساهمت الكتابة في رفع عدد خلايا CD4+، وهي من الخلايا الأساسية في المناعة.
كذلك، ارتبطت الكتابة بانخفاض شدة الألم لدى المصابين بأمراض مزمنة، خاصة حين كتبوا عن مشاعر الغضب المكبوتة على مدى تسعة أسابيع.
أما الموسيقى، فقد ثبت أنها تساهم في تنظيم الجهاز المناعي عبر تأثيرها على مناطق الدماغ المرتبطة بالمزاج والاستجابة الالتهابية، مثل الأميغدالا وتحت المهاد.
الرقص… علاج بالحركة
لا يتوقف الإبداع على الكلمات أو الألوان، بل يمتد إلى الجسد، فقد أظهرت دراسة على ناجيات من سرطان الثدي أن الرقص حسّن من وظيفة الكتف وساهم في تحسين صورة الجسد لديهن، كما أظهرت دراسات أخرى أن الرقص الهوائي، مثل الزومبا، يساعد على ضبط ضغط الدم وتقليل الدهون الثلاثية.
وفي دراسة كورية شملت الرقص الهيب هوب، أبلغ المشاركون عن تحسن في المزاج العام، وتراجع في مستويات التعب.
هل آن أوان العودة إلى الفن؟
كتبت ماري شيلي في مقدمة روايتها “فرانكنشتاين”: “الاختراع لا ينبثق من الفراغ، بل من الفوضى”.
ومنذ قرون، يظل الإبداع وسيلة الإنسان لترويض الفوضى، والعثور على المعنى، والشفاء من الجراح الظاهرة والخفية.
فإذا كانت بضعة أسطر مكتوبة، أو لحنٌ بسيط، أو لوحة مرسومة قادرة على تعزيز جهاز المناعة، وتحسين الصحة النفسية، وتنمية المهارات العقلية — ألا يجدر بنا أن نخصص وقتًا يوميًا لصناعة الفن أو ممارسته، أياً كانت صورته؟