في مواجهة “الكآبة المجتمعية “

عبدالله بني عيسى

33
التقطت “رادارات السخط والتبرم” تصريحات لمسؤولين رسميين في الأيام الماضية بسرعة البرق، لتعيد إنتاج حالة يمكن وصفها “الكآبة الوطنية” في منصات التواصل الاجتماعي من جديد، فباتت أيّ كلمة تُقال من مسؤول في موقع رسمي متقدّم عرضة لصيدٍ سريع من تلك الرادارات التي لا تنام. رادارات مشحونة بتبرّم عميق، ترصد التصريحات المتفائلة أو حتى الواقعية، لتعيد تدويرها في أفران التنمّر والسخرية والتندر، وتُخرج منها ما يُغذّي مزاجاً حاداً، يفرض سطوته على المجال العام بطريقة محبطة لأي بارقة أمل.

لم نعد نقرأ التصريحات في سياقاتها، ولا نستمع لها بعين متفحّصة أو عقل بارد، تصريحٌ لوزير التعليم العالي عن جامعات تدفع أموالاً لتحسين تصنيفها في البحث العلمي، لم يُقرأ كبوح شفاف من مسؤول يعترف بجزء من الإشكالية، بل تحوّل إلى دليل إضافي على تآكل المنظومة التعليمية، وكأن المطلوب من كل وزير أن يلوذ بالصمت، خشية من حفلة التشريح العلني على المنصات. أما تصريح وزير الاستثمار حول الأسواق التي يمكن للأردن أن ينفذ إليها، فحُوِّل من سياق اقتصادي دقيق إلى مادة للتهكّم والتقزيم، رغم أنه تصريح تُردّده عشرات الدول بنفس المعنى ولا تلقى ما نلقاه من تكسير معنوي داخلي.

لقد أصبح المشهد الاجتماعي مأزوماً إلى حدّ الانسداد، لا لأن الناس لا تعاني أو لا تتألّم، بل لأن هذه المعاناة تُفرغ غالباً في قوالب قاتمة لا تتيح مساحة للبحث عن ضوء في آخر النفق. وإن كانت زلات اللسان أمراً شائعاً في العالم، فإنها عندنا وقود يُسكب على نار التذمّر الممتدة منذ أكثر من عقد، تُشعلها كل تفصيلة وتصريح، وتُؤجّجها كل مأساة مهما كانت خصوصيتها.

حادثة اعتداء جسدي، شجار، طعن، مشاجرة مراهقين في شارع عام، أو حتى اعتداء لفظي… تتحول فجأة من فعل فردي مدان إلى ما يصوره البعض وكأنه “دليل دامغ” على سيادة شريعة الغاب. تتسابق المنصات لا لتغطية الحدث بموضوعية، بل لاختطافه وتوظيفه في خطاب عدمي، من عناوينه: “البلد خربانة” و”مش قلتلكو!”.

والأدهى أن بعض المثقفين، ممن يُفترض أنهم بناة الوعي، باتوا يُشاركون في هذه الموجة السوداوية استمطاراً للشعبوية، ومن يحاول أن يُخفف من غلواء الحنق العام، يُوصم على الفور بأنه “مسحّج”.

لا تسأل أحداً اليوم عن رأيه بمستقبل البلاد إلا وسبق سؤالك اعتذارٌ أو تبرير: “أنا مش مطبّل..بس…”. وكأن حب الوطن صار تهمة، والتفاؤل صار دليل غباء، والدعوة إلى الأمل خيانة للقضية!

أليس حريًّا بنا أن نكسر هذا النسق الجبري؟ أليس فينا من يقول: “كفى جلدًا للذات!”؟ كأن الوطنية أصبحت حكرًا على الغاضبين، وكأن الدفاع عن صورة الأردن أو البحث عن مخرج عقلاني من المأزق، هو فعل جبان أو مشبوه.

نحن اليوم بحاجة إلى “أطباء معنويات”، لا إلى من يذكّر المرضى كل يوم بأنهم على وشك الموت. نحتاج إلى من يبث الأمل في جسد الوطن، لا من يُشيّعه يومياً بمواكب اللطم الافتراضي. لك أن تعارض توجه الحكومات المتعاقبة، ولك أن تحملها مسؤولية بعض القرارات او السياسات، ولكن متى كنا نحن، الشعب، إيجابيين بما يكفي لتصحيح المسار؟ لا أحد يطلب المعجزات، لكن هل من المقبول أن يكون أقصى طموحنا منشوراً على “فيسبوك” أو نوبة غضب على “إكس”؟

منصات التواصل، تحوّلت إلى جدران لإعلانات الحرَد الوبائي، تُنذر بخطر أشدّ من الأزمة الاقتصادية والمعيشية ذاتها. خطر يتمثّل في اغتيال روح الأمل، وقتل الدافعية، وتعميق الهوة بين الناس وبلادهم.

المعادلة ليست سهلة، ولا أحد ينكر الألم، لكن المسؤولية الوطنية والأخلاقية تقتضي ألا نكون شركاء في قتل الأمل. أن نواجه الواقع بشجاعة، نعم، لكن دون أن نُسلم له رقابنا.

فالتفاؤل ليس تهرباً من الحقيقة، بل هو فعل مقاومة راقٍ ورافعة حقيقية لشعب ينشد التغيير ومغادرة “القاع” الذي اجتهدنا جميعاً لنقيم فيه أكثر مما ينبغي.

(الرأي)

قد يعجبك ايضا