ديكورات مجالس اللامركزية.. أين الجرأة في مراجعة وجودها بعد الفشل؟
ديكورات مجالس اللامركزية.. أين الجرأة في مراجعة وجودها بعد الفشل؟
د.ميساء المصري
تخيل أن تمنح الناس مفاتيح مدينتهم، لتكتشف بعد سنوات أن هذه المفاتيح سُحبتفجأة… وأن من اعتقد أن صوته مسموع، وجد نفسه بلا قرار، بلا نفوذ، بلا خيارات. إلىهذا الوضع آلت تجربة المجالس المحلية في الأردن، بعد عشر سنوات من اللامركزيةالموعودة.
المفاجأة لم تكن فقط في قرار حل المجالس البلدية ومجالس المحافظات، بل فيالأسئلة التي لم يُجب عنها أحد بعد، من أفشل التجربة؟ لماذا نخضع اليوم لإدارةمؤقتة بعيدة عن المواطن؟ وهل كانت الديمقراطية المحلية مجرد شعار جميل لمتفعله الدولة حقًا؟
منذ إطلاق تجربة اللامركزية في الأردن العام 2015، كانت الرؤية واضحة، نقل جزء منالقرار التنموي إلى المجالس المحلية والبلدية، وإفساح المجال لإدارة محلية تشاركيةتضع المواطن في قلب صنع القرار. لكن السنوات الماضية كشفت عن إخفاقات بنيويةجعلت التجربة أشبه بشكل بلا مضمون، حيث تداخلت الصلاحيات بين المجالس،البلديات، ووزارات الدولة، مع غياب التمويل المستقل الذي بدوره حول اللامركزية إلىأداة شكلية أكثر من كونها آلية حقيقية للتمكين المحلي.
فكرة اللامركزية لم تكن جديدة، فقد انطلقت شرارتها الأولى العام 2004 حين تم طرحتقسيم الأردن إلى ثلاثة أقاليم مسؤولة عن الاستثمار والمرافق العامة والمصاريفالعمومية، لكن المشروع واجه معارضة شرسة وتم ربطه بمؤامرات خارجية على الدولةوالقضية الفلسطينية، ما أدى إلى تأجيله وتعديله مرات عدة ليصبح التقسيم علىأساس المحافظات بدلاً من الأقاليم.
وعلى الرغم من إعادة طرح الفكرة في أعقاب الحراك الشعبي العام 2011، كانتالتجربة محكومة بالهواجس الطبقية والسياسية، ما أدى إلى تمرير قانون اللامركزيةبصيغ جزئية ومفتقرة للصلاحيات الفعلية. المادة السادسة من القانون أعطتالحكومة الحق بتعيين خمسة عشر في المائة من أعضاء مجلس المحافظة، بينما كانالمجلس التنفيذي بالكامل تحت سلطة الحكومة، كما منح القانون مجلس الوزراء حقحل المجالس المنتخبة بشروط مبهمة، مما حولها إلى سيف مسلط على رقاب الأعضاءالمنتخبين. ومن هنا تأتي الحاجة الى التعديلات القانونية.
النظام الانتخابي لمجالس المحافظات يوصف بأنه تفتيتي، يفتقر إلى التنافس الحقيقيعلى البرامج التنموية، ويكرس النفوذ العشائري والمالي أكثر من كونه يتيح للكفاءاتالحزبية والفكرية الفاعلة المنافسة على مواقع القرار. كذلك غياب الأحزاب السياسيةعن المشهد انعكس على ضعف القدرة على صياغة استراتيجيات تنموية محلية،وفقدان المواطن ثقته في المؤسسات التي لم تعد قادرة على تقديم الخدماتالمتوقعة.
تجربة السنوات الماضية أظهرت أن المشكلة ليست في الفكرة، بل في التنفيذ،فالتداخل الواضح في الصلاحيات، ضعف التمويل المستقل، وتغليب المصالحالسياسية على برامج التنمية المحلية، حولت اللامركزية إلى شكل بلا مضمون، حيثأصبحت بعض البلديات ساحات للمحاصصة العشائرية، فيما تجاوزت مديونيتها نحو630 مليون دينار، لتأتي استطلاعات الرأي مؤكدة أن ثمانية وثمانين في المائة منالأردنيين يشعرون بأن تأثيرهم على المجالس المحلية ضئيل، و58 في المائة أيدوا قرارالحكومة بحل المجالس مؤقتًا، ما يعكس فقدان الثقة حتى بين من انتخبها.
الحل المؤقت الذي لجأت إليه الحكومة يكشف تعارضًا صارخًا بين نص القانون الذييهدف لتعزيز المشاركة الشعبية، وبين ممارسة السلطة التنفيذية التي اختارت الحلالسريع على حساب بناء مؤسسات محلية قوية، ويطرح سؤالاً محوريًا حول ما إذا كانتالعودة إلى المركزية تمثل إصلاحًا حقيقيًا أم محاولة لإلغاء تجربة لم تؤت ثمارها بعد.
إن إنقاذ تجربة اللامركزية ممكن، لكنه يتطلب أولاً اعترافًا بأن المجالس أُفرغت منمضمونها، وإعادة بناء فلسفة الإدارة المحلية على أسس واضحة، تشمل استقلالًا ماليًاحقيقيًا عبر إنشاء صندوق محلي للتنمية بتمويل من الإيرادات المركزية يضمن قدرةالمجالس على إدارة مشاريعها من دون تدخل مستمر من الحكومة، وتحديدًا دقيقًاللصلاحيات لتفادي ازدواجية المسؤوليات بين البلديات والمجالس والمحافظين معآليات واضحة للمساءلة والمراقبة، وتعزيز الرقابة الشعبية عبر إلزام المجالس بعقدجلسات علنية وتقديم تقارير دورية للمواطنين وربط التمويل بالأداء بدل الحلالجماعي، فضلاً عن تمثيل أفضل للمجتمع بإشراك النساء والشباب وذوي الإعاقة فيصنع القرار لضمان أن تعكس المجالس الواقع الاجتماعي بكفاءة وعدالة، ووضع جدولزمني واضح للانتخابات اللامركزية خلال ثمانية عشر شهرًا من تاريخ الحل لتجنب الفراغالمؤسسي وضمان استمرار المشاركة الشعبية.
الأردن اليوم يقف أمام مفترق طرق، إما الاستمرار في العودة إلى المركزية بحجةالإصلاح، أو استثمار هذه اللحظة لإطلاق حكم محلي رشيد يعيد للمواطن ثقتهبمؤسسات الدولة ويضعه في قلب القرار، فالتحدي ليس قانونيًا فقط، بل سياسيوأخلاقي، والقرار سيحدد مستقبل الدولة والثقة التي يمكن استعادتها بين القاعدةوالقمة، فالقانون يجب أن يكون أداة تمكين، لا وسيلة لإبقاء الدولة مركزية ومحصنةضد مشاركة الشعب، ونجاح هذه التجربة سيكون اختبارًا حقيقيًا لقدرة الأردن، بنوابهومؤسساته وشعبه، على بناء مؤسسات محلية قوية، وتنمية حقيقية، بعيدًا عن الإدارةالشكلية والوعود غير المحققة.
الخلاصة أن التعديلات القانونية ليست خيارًا، بل ضرورة وطنية استراتيجية. والأردن في2026 يقف أمام امتحان نادر، إما استعادة الثقة من القاعدة إلى القمة، أو تكريسمركزية جديدة تُغلق باب المشاركة الشعبية لعقد مقبل.(الغد)
*كاتبة سياسية ومختصة بالشؤون الإستراتيجية