المرحلة الثانية من التحديث الاقتصادي: ما المطلوب؟

د.رعد محمود التل

14

تأتي المرحلة الثانية من رؤية التحديث الاقتصادي (2026–2029) في وقت حاسم، حيث تشكل المتابعة الملكية المستمرة مدخلًا لضمان التزام الحكومة بتنفيذ الأولويات بدقة وفاعلية. فجلالة الملك يتابع التفاصيل عن كثب، ويوجه بضرورة الالتزام بالجداول الزمنية، وربط التمويل بالإنجاز، والحفاظ على التواصل المستمر مع المواطنين لضمان أن يكون لكل مشروع أثر ملموس. هذه المتابعة لا تقتصر على الرقابة الإدارية، بل تعكس رؤية استراتيجية لضمان تحول الرؤية من وثيقة إلى برنامج واقعي قادر على مواجهة التحديات الاقتصادية الداخلية والإقليمية.

فرؤية التحديث الاقتصادي تدخل الان مرحلة حاسمة مع اقتراب نهاية المرحلة الأولى (2023–2025) والاستعداد للمرحلة الثانية (2026–2029). وفي هذا الإطار، بدأت في رئاسة الوزراء جلسات العمل القطاعية لإعداد البرنامج التنفيذي الجديد للرؤية، بما يضمن أن تكون الأولويات محددة، واقعية، ومبنية على شراكة فاعلة مع القطاع الخاص.

الفارق الجوهري بين المرحلتين يكمن في طبيعة التحديات. فالمرحلة الأولى ركزت على التأسيس: إصلاحات تشريعية، تبسيط إجراءات، إطلاق مشاريع أولية في البنية التحتية والطاقة. أما المرحلة الثانية فهي معنية بتعميق الأثر على الاقتصاد الحقيقي وحياة المواطنين، وهذا ما يجب ان يعيه ويتفهمه بعمق الفريق الاقتصادي في الحكومة، والذي يعني الانتقال من السياسات التمهيدية إلى النتائج القابلة للقياس: نمو أعلى، وظائف منتجة، قطاعات تزداد بها القيمة المضافة، وخدمات ذات جودة ملموسة.

لذلك جلسات العمل القطاعية المرتقبة تمثل نقطة إرتكاز مؤسسية مهمة. فهي منصة “لتفكيك” الرؤية إلى برامج تنفيذية قطاعية، تتعامل مع كل مجال على حدة: الصناعة، الزراعة، التكنولوجيا، اللوجستيات، الطاقة، السياحة وغيرها. الهدف ليس صياغة قائمة أمنيات جديدة، بل تحويل التوجهات الاستراتيجية إلى مسارات واضحة بمؤشرات أداء زمنية، وربط التمويل بالإنجاز. لذلك فإن نجاح هذه الجلسات سيحدد قدرة الحكومة على تحويل الرؤية إلى برنامج واقعي بدلاً من أن تبقى في إطار عام.

لكن هذه الجلسات لا تنعقد في فراغ، فالبيئة الإقليمية والدولية تضيف صفة إضافية من التعقيد والفرص. فالتوتر التجاري بين الولايات المتحدة والصين وإعادة تشكيل سلاسل التوريد يفتحان نافذة أمام الأردن ليكون مركزًا بديلًا للإنتاج والتوزيع إذا وفر بيئة لوجستية وكفاءة جمركية. وفي الوقت ذاته، التقلبات المستمرة في أسعار الطاقة تفرض تسريع التحول نحو الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، ليس كخيار بيئي فقط، بل كخطة اقتصادية لتقليل الكلفة وتحقيق ميزة تنافسية.

على المستوى المالي، التباطؤ العالمي وارتفاع المديونية في الاقتصادات الناشئة يحدّان من تدفق رؤوس الأموال والمساعدات. وهذا يفرض على الأردن تقليل اعتماده على التمويل التقليدي والتوجه نحو أدوات تمويل مبتكرة: شراكات إستثمارية، سندات خضراء وغيرها من الأدوات، فالربط بين الجلسات القطاعية وهذه الأدوات المالية سيكون عاملًا حاسمًا في جذب التمويل الكافي للمشاريع دون زيادة عبء الدين.

الفرص الإقليمية أيضًا تستحق اهتمامًا خاصًا. إعادة الإعمار المحتملة في سوريا مثلاً ستفتح أسواقًا ضخمة للخدمات الأردنية في المقاولات واللوجستيات والرعاية الصحية. إن الاستعداد لهذه المرحلة يتطلب أن تضع الجلسات القطاعية خطة تنفيذية إقليمية متكاملة، تجعل من الأردن قاعدة لعبور السلع والخدمات نحو هذه الأسواق، بدلًا من الاكتفاء بدور ثانوي.
إلى جانب ذلك، الاقتصاد الرقمي يمثل ركيزة أساسية في المرحلة الثانية. العالم يتسارع نحو الذكاء الاصطناعي والاقتصاد المعرفي، والأردن لا يمكنه البقاء في الهامش. الجلسات القطاعية يجب أن تركز على تطوير البنية التحتية الرقمية، الاستثمار في التعليم التقني، وتعزيز شراكات مع شركات عالمية. قطاع التكنولوجيا الأردني قادر على التحول من مزود خدمات محلي إلى مصدر رئيسي للصادرات الرقمية إذا ما تم دعمه بمسار واضح في البرنامج التنفيذي.

الأولوية الأخرى التي لا تقل أهمية هي تحسين جودة الخدمات العامة. فالنمو الاقتصادي لن يترسخ ما لم يشعر المواطن بأثر مباشر في صحته، تعليمه، وعدالة الإجراءات الحكومية. لذلك فإن الجلسات القطاعية لا بد أن تعطي ملف الخدمات بعدًا اقتصاديًا، باعتبارها مكونًا أساسيًا لخفض التكاليف غير المرئية على الإنتاج والاستثمار.

إن المرحلة الثانية من رؤية التحديث الاقتصادي ليست امتدادًا تقليدياً للمرحلة الأولى، بل إختبار لقدرة الأردن على التحول من التأسيس إلى الأثر. نجاحها مرهون بجدية جلسات العمل القطاعية التي ستنطلق من رئاسة الوزراء، بقدرتها على تحديد أولويات واضحة، قدرة الفريق الاقتصادي بالحكومة على التنفيذ، وبربط هذه الأولويات بالبيئة الإقليمية والدولية المتغيرة. وإذا ما أضيف إلى ذلك الاستمرار في المتابعة الملكية المباشرة، فإن الرؤية ستتحول إلى عقد اقتصادي اجتماعي حيّ، قادر على مواجهة الصدمات وتحويلها إلى فرص حقيقية للنمو والتنمية!

قد يعجبك ايضا