اقتصاد العالم تحت المجهر: معايير جديدة لقياس النمو الاقتصادي
د. رعـد محمود التـل*
يمثل التحديث الشامل لنظام الحسابات القومية نقلة نوعية في كيفية قياس النشاط الاقتصادي العالمي، ليتماشى مع التحولات الجذرية التي يشهدها الاقتصاد الرقمي والأصول غير الملموسة وسلاسل الإنتاج العابرة للحدود. فمنذ آخر مراجعة شاملة للنظام في عام 2008، تغيّر المشهد الاقتصادي بشكل عميق مع بروز تطبيقات الهواتف الذكية، والأصول المشفرة، والذكاء الاصطناعي كعناصر مؤثرة في الإنتاج والقيمة المضافة. وفي هذا السياق، أقرت اللجنة الإحصائية للأمم المتحدة بالإجماع النسخة السادسة المحدثة خلال دورتها السادسة والخمسين في نيويورك، لتزوّد الحكومات بأداة أكثر تطورًا لرصد اقتصاداتها وصياغة سياسات قائمة على بيانات أدق.
أحد المحركات الرئيسية لهذا التحديث هو الحاجة إلى قياس النشاط الرقمي بدقة أكبر. فرغم النمو المتسارع للتكنولوجيات الرقمية، ظل أداء الإنتاجية في كثير من الاقتصادات المتقدمة أقل من المتوقع. ويرجح البعض أن هذا الخلل ليس بسبب ضعف مردود الابتكار، بل نتيجة قصور أدوات القياس التقليدية عن رصد القيمة الحقيقية للأنشطة الرقمية. ولهذا، تتضمن المعايير الجديدة مؤشرات واضحة لقطاعات مثل الذكاء الاصطناعي، التجارة الإلكترونية، ومنصات الوساطة الرقمية، إلى جانب تعريفات دقيقة تتيح إدراج هذه الأنشطة ضمن الحسابات القومية بشكل أكثر وضوحًا.
الأصول المشفرة، التي كانت قبل عقد ونصف بالكاد معروفة، أصبحت اليوم مكونًا لا يمكن تجاهله في المشهد الاقتصادي ولا تأثير على الاستقرار المالي، لكنها لا تُحتسب ضمن الناتج المحلي لأنها لا تنتج سلعًا أو خدمات تقليدية. لذلك يوفر التحديث الجديد تصنيفًا لهذه الأصول ضمن «الأصول غير المنتجة غير المالية»، ما يسمح بإدراجها في الثروة القومية ورصد انعكاساتها على السياسة الضريبية والتنظيمية. هذه الخطوة تعزز شفافية البيانات وتدعم قدرة صناع القرار على إدارة المخاطر المستقبلية.
الدروس المستفادة من الأزمة المالية العالمية كانت أيضًا حاضرة في هذا التحديث. فقد باتت الحاجة ملحة إلى أدوات أفضل لرصد المخاطر المالية ومواطن الضعف، خاصة مع توسع دور المؤسسات المالية غير المصرفية وتعقّد الابتكارات المالية. وللتعامل مع هذا التعقيد، يقدم النظام الجديد تقسيمات تفصيلية للأصول والخصوم المالية حسب نوع الأداة والقطاع المؤسسي، ما يوفر صورة أوضح لمصادر المخاطر المحتملة ويساعد على تعزيز الرقابة المالية.
وفي عالم تهيمن عليه الشركات متعددة الجنسيات، التي قد تصمم منتجاتها في بلد، وتنتجها في آخر، وتبيعها في أسواق متعددة، يصبح من الصعب تحديد القيمة المضافة بدقة لكل اقتصاد. ولهذا، يدمج النظام المحدث تعديلات متسقة مع دليل ميزان المدفوعات لتسجيل هذه الأنشطة بدقة، ما يوفر بيانات أكثر اتساقًا وملاءمة لتحليل التجارة وسلاسل القيمة العالمية.
من الجوانب المبتكرة أيضًا التركيز على صافي الناتج المحلي كمؤشر مكمّل للناتج الإجمالي، بعد استبعاد استهلاك رأس المال ونضوب الموارد الطبيعية. هذه المقاربة تمنح صورة أكثر واقعية عن الاداء الاقتصادي، خصوصًا في الدول المعتمدة على الصناعات الاستخراجية، حيث قد يكون الفارق بين المؤشرين كبيرًا ويؤثر في تقييم النمو على المدى الطويل.
رغم وضوح المكاسب، يبقى التنفيذ تحديًا أمام العديد من الدول، خاصة في ظل قيود الميزانيات وضغط الموارد البشرية في الأجهزة الإحصائية. فتبني هذه المعايير يتطلب استثمارًا في القدرات الفنية والبنية التحتية للبيانات، إضافة إلى دعم سياسي ومالي. وقد التزم صندوق النقد الدولي بتقديم المساعدة الفنية والتدريب لضمان جاهزية الدول لتطبيق النظام المحدث ودليل ميزان المدفوعات الجديد بحلول 2029–2030.
تحديث نظام الحسابات القومية ليس تعديلًا تقنيًا بحتًا، بل خطوة استراتيجية لضمان أن تبقى الإحصاءات الاقتصادية قادرة على عكس الواقع في اقتصاد عالمي معقد ورقمي ومتشابك. وفي بيئة تتغير بسرعة، ستكون قدرة الدول على التكيف مع هذه المعايير الجديدة عاملًا حاسمًا في تعزيز النمو المستدام وحماية الاستقرار الاقتصادي. أما بالنسبة للدول النامية، ومنها الأردن ودول المنطقة العربية، فإن التحديث يكتسب أهمية خاصة. فمع تزايد دور الاقتصاد الرقمي وانتشار الشركات الناشئة والابتكارات المالية، يصبح إدراج هذه الأنشطة في الحسابات القومية شرطًا لفهم حقيقي لأداء الاقتصاد وتحديد أولويات السياسة الاقتصادية. كما أن التركيز على صافي الناتج المحلي يتيح تقييمًا أدق لمسار النمو في الاقتصادات، ويساعد على صياغة سياسات أكثر استدامة. غير أن التحدي الأكبر يبقى في بناء القدرات الإحصائية وتحديث البنية التحتية للبيانات، وهو ما يجعل التعاون مع المؤسسات الدولية عنصرًا حاسمًا لتحويل هذه المعايير إلى أداة عملية لدعم التنمية الاقتصادية.
*رئيس قسم الاقتصاد- الجامعة الأردنية