ما أريده عند هيلات التراب
رمزي الغزوي
كأن الورود تظل مرهونة حتى غيبة الحاضرين. كأن نغمات الحب ورطب المديح ولذاذات الثناء، تبقى مكبوتة لا ينثال شلالها رقراقا عذبا، إلا بعدما يحول التراب بيننا. يااااه، ما أقسانا وما أشقانا.
كيف كنا نقبض على هذه المشاعر الجياشة دون أن تفوح؟ كيف لم يفضحها عطرها وينشرها؟ كيف كتمناها عن أحبة كانوا يتمنونها ويترقبونها؟ لكننا بخلنا بها، وخنقناها بصمت سقيم، عقيم. فأيهما أرق وأجمل؟ وردة نضعها في يد حبيب؟ أم باقة نلقيها على تراب قبره الطازج؟
قبل سنوات، طلب منا صديق مجنون أن نقيم له حفل تأبين، وهو حي يرزق. يومها ضحكنا وسخرنا، وظنناها نزوة عابرة من نزواته، لكنه أصر. وفي اليوم الموعود، لبس البياض، وسكن كرسيه لا تتحرك منه إلا عيناه، وراح يسمع كلماتنا وقصائدنا ومصارحاتنا.
واليوم أعترف أنني بخلت ببعض المشاعر في ذلك اليوم. لم أقل كل ما في قلبي. وذلك ربما يندرج تحت باب عدم جدية موته. ولربما كنت أحتفظ بأصدق مشاعري للحظة غياب حقيقية. بعد الحفل، قال لنا ضاحكا: أعرف أن لديكم كثيرا من الحلاوة والطيب وقد بخلتم بها عليّ أيها الأبواش.
أول أمس ذبت في المشاعر التي بثها محبو ومعجبو الفنان الراحل زياد الرحباني، وتساءلت عن ذلك السبب الذي أخفى كل تلك المشاعر الجياشة وأطلقها لحظة الموت. كما ساءني أن تذكرت لبنان بمنح هذا الفنان وسام الأرز الوطني وهو في تابوته. لماذا تأخرتم؟ ولماذا نتأخر جميعا عن تكريم مبدعينا حتى نراهم طي الغياب.
نحن أشحة في مشاعرنا الإيجابية. بخلاء في الثناء والحب والاحتفاء. لكننا نجود، وبسخاء، بمشاعر الذم والانتقاد والكراهية. ولو لم نكن كذلك، لما كتمنا مشاعرنا تجاه أحبتنا وهم بيننا. لماذا نؤجل كل جميل حتى لحظات الغياب؟
لا أعرف لماذا اختار المثل الشعبي الأقدام، ليقول إنها تطول بعد موت صاحبها. لعل الناس يهيلون علينا كثبان المديح بعد ردم التراب، ويقولون إن أقدامنا القصيرة في الحياة كانت طويلة. ربما يقولون ذلك بسخاء، لأننا لم نعد ننافسهم في خطواتهم نحو الحياة ومباهجها.
ما زال في بالي بيت عتابا كانت تردده جدتي على مسمعي بحزن، «حبيبي حبيبي اللي ما نفعني وأنا حي، ما أريده عند هيلات الترايب». ودائما، سنعرف أن ثمة من يمشون في الجنازات فقط؛ ليتأكدوا أن الميت مات حقا، كي يغدو حبيبا طيبا يستحق دفء مشاعرنا.