حرب الأعمار .. الفصل الأخطر بعد وقف النار

23

حرب الأعمار .. الفصل الأخطر بعد وقف النار

راكان السعادة

بالمفهوم العسكري التقليدي ربما انتهت الحرب، وليس بمقدور “إسرائيل” العودة إليها بدون مبررات كبيرة، لكن؛ في المقابل قد تبدأ حرب من نوع آخر، شديدة الأهمية والحساسية؛ وهي حرب إعادة الإعمار.

هنا اقتبس جملة في غاية الأهمية وذات دلالة قالها الرئيس الأميركي دونالد ترمب في “قمة شرم الشيخ”: “الإعمار يجب أن يتم في غزة منزوعة السلاح وتحت قوة شرطة مدنية جديدة”.

هذه الجملة لا يمكن المرور عنها مروراً عابراً، فهي لبّ المشهد المقبل، وجوهر المرحلة الثانية من “خطة ترمب”.

لكن قبل تحليل أبعاد ومعاني ما قاله ترامب عن الإعمار وفهمها، علينا أولاً أن نحاول قراءة وفهم معاني وقف الحرب وإعلان انتهائها بقرار أميركي بحت.

قرار أميركي تجاوز كلياً أهداف حرب الإبادة التي تمسّك بها رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتانياهو عبثاً طوال عامين من تحت شعار “النصر الكامل” الذي لم يتحقق منه شيء.

ترمب الذي فرض على “إسرائيل” خطته، وبدا وكأنه الحاكم الفعلي لها، لم يقْدِم على هذا الأمر وبهذه الصورة إلا بعد أن تأكد من عدة أمور، هي:

أولاً: أن “إسرائيل” فشلت في حسم معركة غزة، وأنها لن تستطيع تحقيق أيٍّ من أهدافها: لا تحرير أسراها بالقوة ولا نزع سلاح المقاومة ولا نزع سلاح قطاع غزة، ولا تهجير أبناء القطاع، ولا فرض السيطرة العسكرية والأمنية هناك، إلى آخر تلك الأهداف.

ثانياً: أدركت “أميركا الترمبية” أن “إسرائيل” دخلت في أزمة داخلية عميقة وخطيرة، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً واجتماعياً، وسط انقسامات حادة في البعدين النخبوي والعام، وكلها تشكل تهديداً وجودياً لهذا الكيان الذي يشكل القاعدة الأميركية والغربية المتقدمة في الشرق الأوسط، ولا يسمح بخسارتها.

ثالثاً: فهمت أميركا، في سياق التفاعلات الإسرائيلية الداخلية، أن نتانياهو لا يريد وقف الحرب لأسباب شخصية، فحياته السياسية مرتبطة باستمرارها إلى أن يحقق نصراً يحفظ مستقبله السياسي ويحصنه ويمنع محاكمته على قضايا فساد، فضلاً عن مخاطر تشكيل لجنة تحقيق تُحمِّله جزءاً أساسياً من مسؤولية الإخفاق في 7 تشرين الأول/أكتوبر.

رابعاً: لاحظت أميركا تعمُّق عزلة “إسرائيل” الدولية، وبخاصة من طرف دول أوروبا الغربية من وزن بريطانيا وفرنسا. هذه العزلة التي تُرجمت إلى اعترافات بالدولة الفلسطينية، أدت إليها الإبادة الجماعية التي تتصادم مع القيم الغربية المفترضة، والأهم تحركات الجماهير الغربية المناوئة للكيان، وهي جماهير فاعلة في تحديد أشكال الحكم في دولها.

خامساً: شكَّل الاعتداء الإسرائيلي على سيادة دولة قطر في محاولة فاشلة لاغتيال قيادة حركة حماس تحولاً في مواقف الدول العربية والإسلامية التي رأت أن إمكان الاعتداء عليها وارد أيضاً.

هنا، كان واضحاً أن أميركا، وإن منحت “إسرائيل” ضوءاً أخضر لتنفيذ العملية، أدركت أنها قد تفقد حلفاءها، وبخاصة دول الخليج، فوجدت نفسها معنية بإجراءات سريعة للدفاع عن مصالحها من خلال احتواء الموقف عبر “خطة ترمب” التي تقول لإسرائيل: كفى، لقد أخذتم فرصة كاملة لإنجاز المهمة وفشلتم.

سادساً: داخل أميركا نفسها بدأت “إسرائيل” تخسر التعاطف، لديها مشكلة كبيرة مع الحزب الديمقراطي، وتململ داخل الحزب الجمهوري، والأهم أنها فقدت الدعم بين فئة الشباب الذي صاروا يناوئون الكيان بصورة غير مسبوقة، ولهؤلاء ثقلهم في حكم أميركا مستقبلاً، وفي انتخاباتها أكانت رئاسية أم تشريعية، وهذا تأخذه إدارة ترامب بجدية كافية.. وربما الدافع الذي جعل ترمب يقول لنتانياهو “لا يمكن لإسرائيل أن تواجه العالم كله”.

هذه الأسباب شكلت الرافعة الأساسية للإجراءات الحاسمة التي اتخذها ترمب، ومعها كان مدركاً أن المقاومة في غزة أيضاً تريد وقف الحرب ووضع حد للإبادة الجماعية والتجويع.

ليس ذلك فقط، فوقف الحرب وفقاً للصيغة الترمبية، بما فيها من فِخاخ، بالنسبة للمقاومة كان إعلاناً بفشل “إسرائيل” بعد عامين من الحرب الضروس في تحقيق أيٍّ من أهدافها، وأن التفاوض السياسي لا العسكري هو الذي يحرر أسراها عبر صفقة تبادل.

المقاومة أيضاً قبلت “خطة ترمب” مكرهة لأنها لا تريد خسارة التعاطف الشعبي العالمي، ولا تريد إخراج الكيان من عزلته، ولا منح الدول العربية فرصة لتحميلها مسؤولية استمرار الإبادة الجماعية.

في المحصلة، انتهت المرحلة الأولى من “خطة ترمب” والمقاومة واقفة على قدميها، لم تستسلم كما أرادت “إسرائيل” وحتى أميركا، وحررت أسرى فلسطينيين من سجون الكيان وأجبرته على الانسحاب في المرحلة الأولى من نحو 50% من أراضي القطاع، والأهم وقف الحرب.

إلى هذه المرحلة الأمور جيدة، ولو نسبياً، لكن؛ ماذا عن المرحلة الثانية..؟

الذي لا شك فيه أن المرحلة الثانية شديدة الغموض والخطورة والتعقيد، ومن الصعب قراءة مسارها وتوقُّع مآلاتها بسهولة ويسر. فهي مرحلة مفتوحة على كل الاحتمالات، من العودة إلى الحرب إلى تسوية سياسية، وهذا يرتبط عضوياً بمسار المفاوضات بين الجانبين عبر الوسطاء.

ولأن أميركا لا يمكن أن تكون وسيطاً نزيهاً، فهي ستعمل على تحقيق أهداف “إسرائيل” من الحرب، أي ما لم تحققه بالإبادة يمكن أن تحققه بالسياسة.

كيف ذلك..؟

بكل بساطة، لم يعد بيد المقاومة إلاّ صمودها وصمود أبناء القطاع وضمانات الوسطاء بعد تسليم الأسرى.

في المقابل بيد “إسرائيل” ورقة إعادة الإعمار، وهي ورقة كبيرة ومفصلية، سيتم استغلالها كورقة ابتزاز للمقاومة لتقديم تنازلات جوهرية لا يمكنها قبولها، لأن قبولها يعني الاستسلام التام.

وهذا يعيدنا إلى تصريح ترمب في شرم الشيخ الذي أشرنا إليه في مقدمة المقال: الإعمار يجب أن يتم في غزة منزوعة السلاح.

المعنى في هذه الجملة أن أميركا و”إسرائيل” لن تسمحا بأي خطوة في ملف الإعمار قبل نزع سلاح المقاومة وسلاح القطاع، وحكم بلا حركة حماس، وقوة عسكرية أمنية عربية أو إسلامية وربما غربية أيضاً.

ولأن الإعمار جوهري وأساسي لأبناء القطاع، فلا يمكنهم العيش في ظل الدمار الهائل للمساكن والبنية التحتية والخدمات، فإن أميركا و”إسرائيل” تدركان ذلك وستوظفان إعادة الإعمار للمساومة والضغط على المقاومة لانتزاع كل ما تريده.

ولا ننسى أيضاً أن أميركا و”إسرائيل” سيكون لهما تفسيرهما الخاص لكل قضية من قضايا التفاوض في المرحلة الثانية، أي ستفرضان وجهة نظرهما ورؤيتهما بدون أي اعتبار لتفسير الطرف الآخر الذي تمثله المقاومة في كل قضايا التفاوض.

هذا يستدعي سؤالاً: ماذا لو انقلبت أميركا على خطتها بعد أن حررت الأسرى..؟

في هكذا حال، علينا أن نعلم أنه في حال انقلبت أميركا على خطتها، لا يمكن للوسطاء، مصر وتركيا وقطر، فعل شيء سوى التنديد والشجب. والانقلاب هنا يعني إطلاق يد “إسرائيل”، التي طعنتها المقاومة في قلبها، لتفعل ما تشاء، سواء في غزة أو الضفة الغربية، أو في أي من الجهات المفتوحة الأخرى.

أي أن فشل أميركا و”إسرائيل” في انتزاع تنازلات كبرى من المقاومة، عبر إعادة الإعمار، قد يعني العودة إلى الحرب كما يتمنى ذلك نتانياهو واليمين المتطرف الذي بات يخشى جراء فشله ان يزول نجمه.

وهذه المرة حرب بلا أسرى كانوا أكبر أزمات الكيان الداخلية، وسبب الانقسام النخبوي والعام الذي أرق أميركا واليمين الصهيوني الحاكم.

إن التحرر من الضغط الذي سببه الأسرى يحرر حكومة الكيان من أي اعتبارات إذا ما قرر التذرع بأي ذريعة لمعاودة الحرب.. وإن كان سيجعل إسرائيل أكثر انكشافاً وعزلةً دولياً لأنها خسرت في ذات الوقت الذريعة الأساسية التي كانت تتشبث بها في عدوانها، أي الأسرى.

المقبل غامض وخطير في آن، إما استسلام المقاومة لكل شروط أميركا و”إسرائيل” وإما العودة للحرب، وإن بشكل مختلف، ولا أظن أن هناك خياراً ثالثاً إلاّ إذا أبدع الوسطاء تسوية متوازنة وضغطوا على الطرفين لقبولها بما يتيح لكل طرف ان يدعي انه حقق أهدافه أو شيئاً منها.

قد يعجبك ايضا