كفاءة الإنفاق العام
كفاءة الإنفاق العام
د. رعد محمود التل
شهدت دار رئاسة الوزراء لقاءات عدة
خُصصت لمناقشة خارطة الطريق لتطوير القطاع العام، وهو ملف بات يشكل إحدى الركائز الرئيسة في مسارات التحديث الوطنية السياسية والاقتصادية والإدارية. إحدى تلك الجلسات ركزت على محور بالغ الأهمية هو كفاءة الإنفاق العام، باعتباره جزءاً من التحديث الإداري، لكنه في جوهره قضية إقتصادية مؤثرة في مسار النمو والاستدامة المالية.
الإنفاق العام في الأردن يمثل أحد الأدوات الأكثر تأثيراً في النشاط الاقتصادي، حيث يشكل الانفاق العام نسبة (٣٠٪) تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي. لذلك فإن أي تحسين في كفاءة هذا الإنفاق سينعكس مباشرة على النمو، فرص العمل، والاستقرار المالي. ومن هنا فإن كفاءة الإنفاق لا تعني مجرد ضبط النفقات أو تخفيض الهدر، بل إعادة صياغة أولويات الصرف الحكومي بحيث يتحقق أعلى عائد ممكن لكل دينار يتم إنفاقه، سواء من حيث دعم النمو أو تحسين مستوى الخدمات العامة، فالعبرة ليست فقط بحجم الانفاق ولكن بنوعيته ايضاً.
المعايير الاقتصادية التي تضبط مفهوم كفاءة الإنفاق أصبحت اليوم محددة وواضحة. أول هذه المعايير هو الفعالية الاقتصادية، أي مدى قدرة النفقات العامة على إحداث أثر ملموس في النمو والإنتاجية. ويأتي بعد ذلك معيار التأثير على النمو الاقتصادي من خلال قدرة المشاريع العامة على توليد الناتج وزيادته وتوسيع فرص التشغيل. كما أن الاستدامة المالية تمثل بعداً لا يقل أهمية، حيث يتعين إدارة النفقات بما لا يؤدي إلى تراكم الديون أو اتساع فجوة العجز المالي.
هناك أيضاً معيار الكفاءة في تخصيص الموارد، وهو ما يعني إعادة توجيه الإنفاق نحو القطاعات ذات الأولوية والعائد الأعلى مثل التعليم والصحة والبنية التحتية، بعيداً عن بنود استهلاكية أو غير منتجة. أما العدالة الاجتماعية فهي عنصر رئيسي في تقييم كفاءة الإنفاق، إذ يجب أن يسهم الصرف العام في تقليص الفجوات الاقتصادية بين الفئات والمناطق. ولا يمكن إغفال معيار الأثر المضاعف للإنفاق، أي قدرة النفقات الحكومية على تحفيز الاستهلاك والاستثمار الخاص وخلق دورة اقتصادية نشطة، إلى جانب معيار المرونة الذي يقيس قدرة السياسة المالية على التكيف مع الأزمات واستخدام الإنفاق كأداة مضادة للدورات الاقتصادية.
هذه المعايير ليست مفاهيم نظرية بل أدوات عملية لقياس الأداء الحكومي وربط الإنفاق بالنتائج لا بالمدخلات. فعلى سبيل المثال، يمكن تقييم العائد على الإنفاق الاجتماعي من خلال مؤشرات التعليم والصحة، كما يمكن قياس أثر المشاريع الرأسمالية عبر مساهمتها في رفع الناتج المحلي أو جذب الاستثمارات. وبهذا تصبح السياسة المالية أكثر شفافية وقابلة للمساءلة أمام المواطن.
اللقاء الذي انعقد في دار رئاسة الوزراء بحضور وزيرة تطوير القطاع العام أوضح أن خارطة طريق تطوير القطاع العام لم تعد محصورة في الإصلاح الإداري التقليدي القائم على تقليص البيروقراطية أو تحسين الإجراءات، بل تحولت إلى إطار شامل لإعادة صياغة العلاقة بين الإدارة العامة والاقتصاد الوطني. فرفع كفاءة الإنفاق الجاري يعني تقليل الهدر في بنود الدعم والرواتب دون المساس بالعدالة الاجتماعية، ورفع كفاءة الإنفاق الرأسمالي يعني تحويل المشاريع العامة إلى محركات حقيقية للنمو طويل الأجل.
إن إدماج كفاءة الإنفاق كمكون أساسي في التحديث الإداري (ممكن ان يكون بمسمى مؤشر قياس كفاءة الإنفاق العام) يعكس وعياً رسمياً بأن الإصلاح المؤسسي لا ينفصل عن الإصلاح الاقتصادي. فإذا نجحت الحكومة في تحويل هذه المعايير إلى سياسات عملية مدعومة بالقياس والشفافية، فإن الأثر لن يقتصر على ضبط المالية العامة فحسب، بل سيمتد إلى تعزيز الثقة بالاقتصاد الأردني، وتحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي، وترسيخ أسس الاستدامة المالية.
ما نقوله بأن تطوير القطاع العام ليس هدفاً إدارياً بحد ذاته، بل هو مشروع اقتصادي ايضاً يربط بين الكفاءة المالية والعدالة الاجتماعية والنمو المستدام. ومع تطبيق خارطة الطريق بجدية، يمكن أن يشكل هذا المسار نقطة تحول نحو مرحلة جديدة من الحوكمة الرشيدة والتنمية الشاملة.الرأي