الدوحة.. نقطة التحول الكبرى في جيواستراتيجية المنطقة

سامح المحاريق

19
كيف يمكن أن تحدد ما إذا كان حدث سياسي معين يعتبر نقطة تحول رئيسية؟ عليك فقط أن تسأل نفسك هل كان هذا الحدث واردًا أو محتملًا قبل خمس سنوات، والضربة الإسرائيلية التي وجهت لقطر تعتبر من هذه الزاوية نقطة تحول رئيسية.
اعتمدت اسرائيل على ترويج نسخة اقتصادية من السلام لا تشمل على الأرض أو الحقوق، فقط الفرص الاقتصادية، ومن يقبض عليها يمكن أن يلتحق بالقطار الإسرائيلي الذي تصوره بنيامين نتنياهو قاطرة للمنطقة، ولكن الضربة في الدوحة تأتي لتضع كل المشروع في مهب الريح، فإسرائيل تعتدي للمرة الأولى على دولة خليجية، وتدفع لتصاعد مواقف متشددة في الخليج العربي الذي حاولت تحييده عن الصراع القائم، بل وطرح الحلول الاقتصادية بوصفها القادرة على حلحلة الأوضاع المعقدة تدريجيًا.
الخبرة التي تحوزها دول مثل الأردن ومصر مع إسرائيل عميقة، فهي تمتلك أوراقًا في الداخل الفلسطيني، ولديها علاقات تاريخية وقديمة مع أطياف مختلفة من المقاومة الفلسطينية، وجيوشها خاضت حروبًا وتحصلت على أسرى، وواجهت اسرائيل استخباراتيًا وأمنيًا على امتداد عقود من الزمن، وكثيرًا ما توجه الأردن بخطاب يظهر معرفته العميقة بالسلوك الإسرائيلي على الأرض من خلال الإجراءات المتخذة، والاستراتيجيات التفاوضية التي تعمل على تفكيك القضايا وإعادة ترتيبها لمصلحة وجهة النظر الإسرائيلية، أو دفعها لتكون عائقًا أمام التقدم تجاه السلام العادل والشامل.
كثير من القوى في إسرائيل تعتبر السلام مشكلةً، لأنه يعني النزول عن شجرة التأهب والتعبئة، تجاه أرض تحمل أمامها تحديات ديمغرافية وثقافية كثيرة، ولا ترى أن المشاريع التي طرحت حول التجارة مدخلًا للسلام ضرورية، بل وما دامت اسرائيل تعلن سيطرتها على سماء المنطقة، وتسقط جميع الخطوط الحمراء، فالمقاربة الإسرائيلية الجديدة تستهدف دول الخليج بصورة غير مسبوقة.
الطرح الإسرائيلي الذي حمله نتنياهو إلى العالم بعد الاتفاقات الإبراهيمية كان يعتمد على الخليج مدخلًا لحركة التجارة والترانزيت، ويقدم موانئ اسرائيل بوصفها منصة إعادة تصدير لأوروبا، ونظريًا يحقق ذلك عوائد كبيرة لجميع الأطراف، ويدمج إسرائيل في المنطقة ليصبح أمنها جزءًا من استقرار الخط التجاري الذي يعرف بالممر الهندي IMEC، ويبدو أن هذا المشروع لم يعد يشغل الإسرائيليين بهذه الطريقة في الأشهر الأخيرة، خاصة بعد المتغيرات في سوريا ولبنان.
الاستهانة بفرص السلام من خلال استهداف قطر، والمواقف التي اتخذت لمساندتها في عمان والقاهرة والرياض وأبوظبي، وزيارات رئيس دولة الإمارات العربية وولي عهد الأردن إلى الدوحة، والتصعيد لمجلس الأمن وسط حالة غموض الموقف الأمريكي، كلها دفعت إلى الوقوف على واقع جديد يستدعي مراجعة الرؤية تجاه إسرائيل بعد السابع من أكتوبر وصعود التيار اليميني الذي يتسيد المشهد مع تفكك الدولة العميقة في إسرائيل أمام استطالة الحرب بالصورة التي تركت أثرها على المجتمع في إسرائيل، وجعلته يتخذ مواقف متناقضة بين من يرون الأولوية في الأسرى، ومن يرون الأهمية منصبة على اليوم التالي وترتيباته، وتقويض الوجود الفلسطيني وقدرته على المقاومة.
أمام الورقة الخليجية التي يبدو أنها غير مهمة للتيار اليميني، ولا يراها سوى توسعة لانكشاف إسرائيل بأكثر مما تتحمل، يأتي الحل في نسخة (ما) من إسرائيل الكبرى تجاه مشروع إسرائيلي خالص تمامًا يتطلب السيطرة على البحر الأحمر وخليج العقبة بما يعني إضرارًا بمصالح الدول المطلة على الخليج لتمكين ميناء إيلات من العمل على استيعاب حركة تجارة كبيرة وتدفق واسع للملاحة القادمة تجاهه، وأمام إسرائيل القيام بمشاريع هندسية في قناة منافسة لقناة السويس، ليس بمعنى اتصال البحرين الأحمر والمتوسط من خلالها ولكن وجود مجال لمناورة السفن في التحميل والتفريغ، وهو ما يعني ابتلاع غزة أو جزء كبير منها بالكامل، ويبدو أن الواقع على الأرض يغري اسرائيل بالاستفراد بالمشروع بصورة منفردة.
ما يتطلبه المشروع هو الاستمرار في توهين الدول العربية التي يمكن أن تقدم حلولًا بديلةً، ومنها العراق التي تطرح مشروع ميناء الفاو ليكون مدخلًا لمنصات إعادة تصدير في الموانئ السورية والتركية، وذلك ما يجعل احتمال تصعيد التوتر التركي – الإسرائيلي في سوريا قائمًا ومفتوحًا على احتمالات متعددة، ليس بمعنى حرب مباشرة بين تركيا وإسرائيل، ولكن حرب على الأرض في سوريا.
يبقى أن الرياض والقاهرة لمصالحهما في البحر الأحمر في مواجهة احتمالات وحسابات معقدة خاصة أن اسرائيل استثمرت في علاقات متشابكة في دول تؤثر على القرن الإفريقي وفي أرتيريا ذات الساحل الممتد على البحر الأحمر.
وسط ذلك كله، تبقى الأردن أمام الجانب الذي يخصها من الصراع المعقد في مرحلته الجديدة التي سقطت فيها جميع الخطوط الحمراء، وهو الضفة الغربية والجنوب السوري بوصفهما جزءًا من مشروع أوسع يفرض نفسه على خيارات اليمين الإسرائيلي.
ضربة الدوحة نقلت الرياضة الذهنية بخصوص الجانب الجيوسياسي في المنطقة ليصبح خيارات شبه إجبارية في حالة استمر اليمين الإسرائيلي في هيمنته، والمطلوب ارهاقه وإحراجه وإفشاله بصورة متواصلة، وهو ما يتطلب تنسيقًا واسعًا وعالي الوتيرة، ولذلك فمكوكية الرحلات والاجتماعات على مختلف المستويات متوقعة في الأشهر المقبلة الحرجة حيث ستكون الإجابة حول ضربة الدوحة كنقطة فارقة لتأسيس مقاربة إسرائيل القوة المفرطة والهيمنة المطلقة، أو اللقمة الكبيرة التي سيغص بها اليمين الإسرائيلي لتشكل منعطفًا كبيرًا يحدد مستقبله ككل.
قد يعجبك ايضا