استخراج الثروات… ثروة الحاضر وكارثة المستقبل
كتب: عمران السكران
-7 ملايين هكتار من الأراضي الزراعية مهددة بسبب التوسع في التعدين
– 50 مليار طن من التربة تُفقد سنوياً نتيجة الأنشطة الاستخراجية
– خسائر بيئية بمليارات الدولارات سنوياً بسبب التعدين غير المنظم
لا يختلف اثنان على أن النفط والمعادن والمياه الجوفية شكّلت رافعة اقتصادية للدول الحديثة، وأساسًا لعصر الصناعة والتكنولوجيا. لكن السؤال الذي بات يفرض نفسه اليوم: هل ما نعتبره ثروة في الحاضر هو في الحقيقة إرث ثقيل من الكوارث للأجيال المقبلة؟
الأرقام التي نشرتها وكالة أسوشيتد برس عام 2024 حول إزالة 1.4 مليون هكتار من الغابات بسبب التعدين بين عامي 2001 و2020، وانبعاث ما يعادل غازات فنلندا السنوية من الكربون، تكفي لتوضيح المعادلة. إننا نحرق مستقبل المناخ باسم “النمو”، وندمّر ما تبقى من غابات مطيرة أساسية لا يمكن استبدالها. المفارقة أن جزءًا كبيرًا من هذه الأراضي هو ملك مجتمعات أصلية، لكن مصالح الشركات العابرة للقارات جعلت أصواتهم صامتة أمام الآلات الثقيلة.
وفي قطاع النفط، لا تبدو الصورة أقل قتامة. دراسة بريطانية حديثة أثبتت أن منصات الإنتاج في بحر الشمال ترفع التلوث الهيدروكربوني بنسبة 10,613%، وتقلص التنوع البيولوجي إلى الثلث تقريبًا. لا يختلف ذلك كثيرًا عن كارثة “ديب ووتر هورايزن” عام 2010، لكنه يحدث بصمت يومي، تحت غطاء “التنمية المستدامة” التي تُسوَّق إعلاميًا. والأدهى أن الحكومات الغربية، رغم التزاماتها المناخية، ما تزال تمنح تراخيص جديدة للتنقيب في البحر، وهو ما قد يطلق انبعاثات كربونية تعادل 30 عامًا من استهلاك الأسر البريطانية، بحسب الغارديان.
المياه الجوفية بدورها لم تسلم من جشع الإنسان. في الهند، استهلاك بعض المدن للمياه يتجاوز قدرة التجديد بأكثر من الضعف، وفي إيران تهبط الأرض بما يتجاوز عشرة سنتيمترات سنويًا، فيما أظهرت دراسات نيتشر ورويترز أن ثلث الأنظمة الجوفية في العالم يتدهور بوتيرة متسارعة. إننا لا نتحدث هنا عن أرقام مجردة، بل عن أراضٍ تنهار تحت أقدام البشر، وقرى تُفرغ من سكانها، ومزارع تتحول إلى أراضٍ بور.
الهبوط الأرضي، هذه الظاهرة التي تبدو تقنية، هي في جوهرها شهادة إدانة للبشرية. ففي الولايات المتحدة، تغرق مدن كبرى بمعدل يصل إلى عشرة مليمترات سنويًا، وفي الهند سجلت أحمد آباد هبوطًا بمعدل 35 مليمترًا، ما يهدد البنية التحتية والمباني والطرق. الأمر لا يتوقف على التشققات والفيضانات، بل يتعداه إلى فقدان الأرض قدرتها على تخزين المياه، وهو ما يعمّق أزمة الجفاف ويفتح الباب أمام تسلل مياه البحر إلى الخزانات الجوفية الساحلية وتملحها.
تقرير نشرته Science Advances أطلق وصفًا دقيقًا للوضع: “بقع الجفاف” التي تتوسع كالعفن عبر سطح الأرض. إن ضخ المياه الجوفية أصبح المساهم الأكبر في ارتفاع مستوى البحار، متجاوزًا حتى ذوبان الجليد. نحن عمليًا نعيد توزيع المياه من باطن الأرض إلى البحار، في دورة عبثية ستدفع ثمنها الأجيال القادمة.
ورغم هذا السواد، هناك أمثلة على أن التغيير ممكن. فقد نجحت السعودية وتايلاند وأريزونا الأميركية في وقف النزيف المائي عبر سياسات صارمة وإعادة شحن الخزانات. لكن هذه المبادرات تبدو حتى الآن محاولات متناثرة في محيط من الاستنزاف، لا ترقى إلى مستوى التحدي الكوكبي.
الخلاصة أن ما نعتبره اليوم ثروة قد يكون غدًا لعنة. المجتمعات والدول أمام مفترق طرق: إما استمرار الجشع الذي يحوّل الأرض إلى جثة جافة ومحيطات مسمومة، أو تبني سياسات بيئية صارمة تضع حدودًا واضحة لما يمكن للبشر أن يستخرجوه دون أن يدمّروا موطنهم الوحيد. السؤال الذي يجب أن يطرحه صانع القرار على نفسه ليس: كم سندخل من عائدات النفط أو التعدين هذا العام؟ بل: أي أرض وأي مناخ سنتركه لأحفادنا بعد خمسين عامًا؟