غزة تجوع والعدالة الدولية تتوارى

أ. د. ليث كمال نصراوين

22
أعلنت الأمم المتحدة أن قطاع غزة قد دخل رسمياً في مرحلة المجاعة، بعد أن تجاوزت معدلات سوء التغذية والوفيات وانعدام الأمن الغذائي الحدّ الذي يضع المجتمعات الدولية على حافة الانهيار الأخلاقي والقانوني. فهذا الإعلان يجب ألا يُنظر إليه على أنه مجرد توصيف لحالة إنسانية مأساوية غير مسبوقة يعيشها أكثر من مليوني إنسان محاصر، بل إنه يحمل أبعاداً قانونية خطيرة تصل إلى حدّ اعتبار ما يقوم به العدو المحتل جريمة حرب بموجب القانون الدولي.
فالمجاعة في غزة لم تكن نتيجة كارثة طبيعية، بل بفعل ما يقوم به الاحتلال من سياسات ممنهجة تدفع نحو تجويع سكان القطاع من خلال فرض الحصار ومنع دخول المساعدات، ما يجعلها جريمة “مصنوعة” بقرار سياسي ومخالفة صريحة للقانون الدولي الإنساني. فاتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولها الإضافي الأول لعام 1977 تحظر بشكل قاطع تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال في الحروب، وبأنه لا يجوز تدمير أو مصادرة المواد الضرورية لبقاء السكان على قيد الحياة من غذاء وماء ومحاصيل.
كما تنص المادة (8) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن تعمد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمد عرقلة الإمدادات الغوثية على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف، يعد صورة من صور جرائم الحرب.
وبما أن فلسطين طرف في هذا النظام، فإن المحكمة الجنائية يثبت لها من الناحية القانونية الاختصاص بالنظر في جرائم الحرب المرتكبة على أرضها. لكن يبقى السؤال الأهم حول مدى توافر الإرادة السياسية الدولية لمحاسبة المسؤولين عن هذه الكارثة، وإلى متى سيبقى القانون الدولي رهينة لتجاذبات سياسية عالمية وموازين القوى في الأمم المتحدة بهيئاتها ومجالسها المتهالكة.
إن المسؤولية الدولية عن جرائم الحرب المرتكبة في غزة تتوزع على عدة مستويات: مسؤولية الكيان الصهيوني باعتباره الجهة التي تفرض الحصار وتمنع الإمدادات الإنسانية، والمسؤولية الفردية للقادة العسكريين والسياسيين الذين يصدرون أوامر بمنع الغذاء أو قصف مخازنه أو عرقلة وصوله، وأيضاً مسؤولية المجتمع الدولي الذي لا يمكنه الاكتفاء بالتعبير عن القلق أو إصدار بيانات الشجب. فوفقاً لمبدأ “مسؤولية الحماية”، يتحمل المجتمع الدولي واجب التدخل عندما تُرتكب انتهاكات جسيمة تهدد حياة المدنيين.
وما يزيد من سوداوية المشهد الدولي أن الدول التي سارعت إلى التدخل في نزاعات أخرى بذريعة حماية المدنيين، تقف اليوم عاجزة – أو متواطئة – أمام مأساة غزة، فلم نسمع عن أي دولة تتقدم بمشروع قرار يدين التصرفات الصهيونية أو حتى تطالب بالضغط على حكومة الاحتلال للسماح بإدخال المساعدات بشكل عاجل إلى أهالي القطاع المنكوب.
إن هذا الصمت الدولي يطرح تساؤلات أخلاقية عميقة تتعلق بالانتقائية في تطبيق المعايير الإنسانية الدولية وحجم التأثير السياسي والمصالح الدولية على قدرة الأمم المتحدة على تنفيذ الأهداف التي أنشئت لأجلها والمتمثلة في حفظ الأمن والسلم الدوليين. فإعلان المجاعة في غزة يجب ألا يدين مرتكبي الجريمة وحدهم، بل إنه يشكل إدانة أيضاً للمجتمع الدولي الذي يقف عاجزاً أمام هذه الكارثة الإنسانية غير المسبوقة.
ولا يخفى أن سلاح التجويع ليس جديداً في تاريخ النزاعات؛ فقد استخدم في البوسنة والهرسك ودارفور واليمن، وكانت النتيجة دوماً موت المدنيين وانهيار المجتمعات المحلية. لكن المأساة في غزة تختلف بكونها تُبث لحظة بلحظة أمام أعين العالم، ومع ذلك يستمر الصمت، ما يجعل من هذه الكارثة جريمة موثقة بالصوت والصورة، لا مجال لإنكارها أو تجاهلها.
كما أن لهذه المأساة بعداً إقليمياً مباشراً، إذ تقع على دول الجوار مسؤولية أخلاقية وسياسية لمضاعفة الضغوط على المجتمع الدولي وفتح ممرات إنسانية عاجلة. فالتقصير الإقليمي لن يكون أقل خطورة من الصمت الدولي، وسيُقرأ تاريخياً كجزء من دائرة التواطؤ بالصمت.
إن وفاة أطفال غزة ونسائها يجب أن تُقرأ باعتبارها إعلان نهاية القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وفضيحة مدوّية تكشف عجز النظام العالمي عن حماية أضعف الفئات البشرية. وسيسجل التاريخ أننا عشنا زمناً كانت فيه القوانين الدولية والمواثيق الإنسانية حبراً على ورق، والمنظمات الحقوقية قائمة وحاضرة بينما كان الفلسطينيون يموتون جوعاً أمام أعين الجميع.
إن غزة اليوم ليست مجرد مقياس لبطش وظلم المحتل الصهيوني، بل مؤشر على سقوط الإنسانية من قاموس العالم بأسره. فأخطر ما يمكن أن يحدث أن يصبح التجويع أداة مقبولة في ميزان القوة، بينما القانون الدولي يتوارى خلف الصمت، والضمير العالمي يواصل الغياب.

* أستاذ القانون الدستوري في الجامعة الأردنية

قد يعجبك ايضا