استراتيجية وطنية لمعالجة مشاكل المالية العامة

22

استراتيجية وطنية لمعالجة مشاكل المالية العامة
رعد محمود التل
إن معالجة مشاكل المالية العامة في الأردن لم تعد خياراً ترفياً بل ضرورة وطنية ملحّة، فهي الأساس الذي يمكن من خلاله إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وتوفير الأرضية الصلبة لنمو اقتصادي مستدام. وقد أكدت التوجيهات الملكية السامية على أهمية المضي قدماً في برنامج الإصلاح الشامل بمساراته السياسية والاقتصادية والإدارية، بما يعكس وعياً رسمياً بأهمية هذا الملف وخطورته على استقرار الدولة ومستقبلها.

رؤية التحديث الاقتصادي وضعت نصب أعينها هدفاً مركزياً يتمثل في رفع معدلات النمو وتحقيق استدامته، إلى جانب تحسين مستوى معيشة المواطنين وتوفير فرص العمل. غير أن الوصول إلى هذه الأهداف يتطلب إدارة أكثر كفاءة للمالية العامة، بحيث يتم ترتيب الأولويات والتركيز على المشاريع ذات الأثر المباشر على حياة الناس. وفي هذا السياق يبرز أهمية دراسة الأثر المالي لمشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والتأكد من أنها تحقق عائداً حقيقياً على الاقتصاد دون أن تتحول إلى عبء جديد على الخزينة.

الاستراتيجية الوطنية المطلوبة للإصلاح المالي يجب أن تقوم على مجموعة من المحاور المتكاملة. أولها إعداد موازنة شفافة وواقعية تعكس الأرقام الحقيقية للعجز والمديونية، وتُلزم جميع المؤسسات بالإنفاق ضمن السقوف المرصودة لها. وثانيها ترشيد الإنفاق الرأسمالي عبر التركيز على المشاريع ذات القيمة المضافة في الاقتصاد (مشروع للنقل العام مثلاً)، مع وقف الإنفاق على المشاريع غير المجدية اقتصادياً. وثالثها تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص بحيث يصبح الاستثمار في المشاريع التنموية مسؤولية مشتركة، ما يخفف العبء عن الحكومة ويوفر فرصاً أكبر للنمو.

كما يجب أن تتضمن الاستراتيجية معالجة الاختلالات المزمنة مثل الدعم غير الموجه، والإعفاءات الطبية، إضافة إلى مكافحة التهرب الضريبي. هذه القضايا تحتاج إلى قرارات صعبة لكنها ضرورية لوضع المالية العامة على المسار الصحيح. ومن المهم أيضاً إعادة النظر في هيكلة العبء الضريبي، بحيث يتم تقليص الاعتماد على الضرائب غير المباشرة (ضريبة المبيعات) لصالح الضرائب المباشرة (ضريبة الدخل)، لما في ذلك من تعزيز للعدالة الضريبية وانسجام مع القواعد الدستورية.

إن تحفيز النمو الاقتصادي يمثل المدخل الأساسي لزيادة الإيرادات العامة بشكل مستدام، فالإصلاح المالي الحقيقي لا يقوم فقط على ضبط النفقات، بل على توسيع قاعدة الدخل. ويتحقق ذلك من خلال رفع مستويات الطلب الكلي، وبشكل خاص زيادة الدخل المتاح للأسر ما ينعكس في ارتفاع الاستهلاك الخاص وتحريك عجلة الإنتاج. كما يتطلب الأمر تحفيز الاستثمار العام والخاص، بما يضمن تدفقاً أكبر لرؤوس الأموال نحو القطاعات المنتجة. ويأتي تجويد الإنفاق الرأسمالي في مقدمة أدوات التحفيز، من خلال توجيه الموارد نحو المشاريع ذات الأثر الاقتصادي العالي في التشغيل والنمو. إضافة إلى ذلك، تمثل زيادة الصادرات محوراً مهماً لتوسيع النشاط الاقتصادي وتعزيز احتياطيات النقد الأجنبي، ما ينعكس إيجاباً على الإيرادات الضريبية والاستقرار المالي. بهذه السياسات المتكاملة يمكن تحريك الاقتصاد من حالة الجمود إلى ديناميكية نمو قادرة على توليد إيرادات مستدامة تخفف العبء عن المالية العامة.

ولا تقتصر التحديات على الجانب المالي فقط، فالنمو الاقتصادي في الأردن يواجه معوقات أخرى مثل المزاج العام السلبي الذي قلل من ثقة المواطنين بالإنجازات الاقتصادية، وارتفاع مديونية الأفراد الذي أضعف من القوة الشرائية، وضعف تنافسية الاقتصاد بسبب ارتفاع كلف الإنتاج والطاقة والنقل والتمويل. كما تشكل البيروقراطية والتشريعات المعقدة عقبة أمام الاستثمار وتقييداً لبيئة الأعمال. معالجة هذه التحديات تعد شرطاً موازياً لإنجاح الإصلاح المالي، لأن أي سياسة مالية تحتاج إلى قاعدة اقتصادية قوية تدعمها.
إن إعطاء الأولوية للمشاريع الممولة بالمنح أو القروض الميسرة عند إعداد الموازنة، وتعزيز العلاقة المؤسسية بين وزارة التخطيط والقطاع الخاص لتعريفه بالفرص الاستثمارية أمورفي غاية الاهمية. كما أن إعطاء الشركات الأردنية الأولوية في تنفيذ المشاريع الممولة كلما كان ذلك ممكناً.

إن نجاح هذه الاستراتيجية يتطلب إرادة قوية وقرارات شجاعة، إلى جانب بناء توافق مجتمعي على أن الإصلاح المالي ليس مجرد إجراء اقتصادي بل هو مسار وطني شامل لحماية مستقبل الدولة. فالمالية العامة المنضبطة ليست أداة محاسبية فحسب، بل هي تعبير عن قدرة الدولة على إدارة مواردها بكفاءة وتوجيهها نحو التنمية الحقيقية. وإذا ما نجح الأردن في تبني وتنفيذ استراتيجية وطنية متكاملة، فإنه سيكون قد وضع حجر الأساس لبناء اقتصاد قوي قادرعلى مواجهة التحديات وتحقيق تطلعات المواطنين في حياة أفضل ومستقبل أكثر استقراراً.

قد يعجبك ايضا