من الوطن البديل إلى الوعي البديل: قراءة في تحولات الصراع
من الوطن البديل إلى الوعي البديل: قراءة في تحولات الصراع
تنفيذ المشروع الصهيوني كان ضمن خطة محكمة مقصودة. وقد انتهت مرحلته الأولى بإعلان دولة الكيان على ما يقارب 80 % من مساحة فلسطين التاريخية. وفي المرحلة الثانية، بعد عام 1967، بدأ تفكيك الهوية الفلسطينية تحت غطاء ما سُمّي “بعملية السلام”، حيث استخدمت المماطلة في عملية السلام وبيع وهمه للعرب لغايات قضم الأرض، بناء القوة وشرعنة التوسع. أما اليوم، ومع إطلاق خطة ترامب ونتنياهو لوقف العدوان على غزه، فقد دخل المشروع مرحلته الثالثة: وهي إلغاء الدولة الفلسطينية فعليًا وتحويل الصراع إلى ملف إنساني منزوع السياسة.
أدرك الأردن مبكرًا أن سقوط الضفة الغربية لم يكن مجرد خسارة معركة عسكرية عابرة، بل شكل تهديدًا لهويته ووجوده كدولة. وبدأ من مشروع “المملكة العربية المتحدة” 1972 وصولا إلى قرار فك الارتباط عام 1988، حاول الحفاظ على علاقته السياسي والقانوني بالضفة الغربية، مدركًا أن سقوطها يعني تهديدا مباشرا له ولسيادته في ظل ترويج إسرائيل لمشروع الوطن البديل. وقد كان في ذلك إنذار مبكر للعرب: بأن حماية فلسطين ليست تضامنًا بل شرط استقرار إستراتيجي في المنطقة.
في العقد الأخير، ومع إطلاق خطة ترامب المعروفة بـ “صفقة القرن”، بلغ المشروع الصهيوني مرحلة التنفيذ الميداني. حيث منحت الخطة إسرائيل شرعية ضمّ 30 % من الضفة مقابل وعدٍ مؤجلٍ بدولةٍ مشروطة. وان كان قد جُمّد الإعلان سياسيًا، لكن الضمّ استمرّ عمليًا بالمستوطنات والطرق الالتفافية. وما يجري اليوم هو ضمّ هادئ بلا إعلان، فيما تُدار غزة كملف إغاثي لا كقضية شعب يناضل من أجل تقرير المصير.
السابع من أكتوبر كشف أن هذا العدو لا يقبل أي رؤية للتعايش، وأن واشنطن ليست خصمًا للشعوب العربية فحسب، بل حليفٌ غير موثوقٍ للأنظمة التي تتغذى من تبعيتها لها. لذلك تبقى المقاومة الخيار الأوحد لترسيخ الحقوق، شريطة أن تنتقل من كونها مجرد رد فعل عسكري إلى مشروع عربي متكامل ومنهجي، يُدمج فيه العمل السياسي مع الوعي المستدام، والديمقراطية مع التحرير، والعلم مع العدالة الاجتماعية. فالمقاومة التي لا تمتلك بنية فكرية وتنظيمية قد تنتهي في ظرف زمني ما، أما التي تمتلك مشروعًا فهي التي تصنع التاريخ والمستقبل معا.
التضحيات الفلسطينية لا تمثل مأساة إنسانية فحسب بل أصبحت نقطة تحول في الوعي العالمي. حيث فقدت إسرائيل الكثير من شرعيتها الأخلاقية التي بناها وتبناها الغرب طويلا، مما أدى إلى نشوء موجة تضامن غير مسبوقة، خاصة بين الشباب في الدول الغربية.
إلا أن التحول الأعمق كان في الوعي. فـالسابع من أكتوبر لم يُحدث فقط كسرًا أمنيًا في إسرائيل، بل كسرًا إدراكيًا عالميًا. انهار الخطاب الذي صوّرها دولة قانون، وظهرت كما هي: كيان استعماري مسلح. ومن قلب المأساة، نشأ وعي جديد يرى أن القضية الفلسطينية ليست حرب حدود، بل مرآة لمستقبل العدالة في العالم. ومن هنا وُلد مفهوم الوعي البديل: إدراك عربي وإنساني جديد بأن التحرر يبدأ من تحرير الوعي من الخوف والتبعية، ومن إصلاح الداخل السياسي العربي نفسه. فالنظام الذي لا يحرر شعبه من الاستبداد لا يستطيع أن يحرر أرضه من الاحتلال.
الصهيونية ليست مشروع تعايش، بل مشروع هيمنة. ومع وضوح سقوط ما يُسمى بـ”حل الدولتين” الذي استخدمت المفاوضات حوله ستارًا للضم والتوسع الاستيطاني، تزداد الحاجة إلى رؤية جديدة تقوم على أساس العدالة وتحقيق حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية، لا على الجدران والحواجز. ولهذا فإن المناداة فالدولة الواحدة الديمقراطية التنويرية ليست طرحًا مثاليًا، بل نتيجة طبيعية لتآكل منطق الاحتلال وسقوط إمكانية تنفيذ الفصل العنصري، ومقدمة لتحريرٍ شاملٍ يعيد الأرض والإنسان إلى وحدة الوجود والحق. لذا يمكن أن تكون المبادرة العربية خطوة مؤقتة لكبح خطة واشنطن في تحويل القضية إلى ملفٍ إنساني، لكنها لا تُغني عن الهدف الحقيقي وهو مشروع للتحرير الشامل وقيام الدولة الفلسطينية الديمقراطية الواحدة، من النهر إلى البحر، دولة تنويرية لمواطنيها جميعًا.
ذلك المشروع ليس نهاية الصراع بل بدايته الحضارية: بذرة مشروعٍ عربيٍّ جديد يقوده جيلٌ عربيٌّ جديد خرج من رحم الحرب والإحباط، يحمل قيم الديمقراطية والحرية والمعرفة، ويقود التحول في العالم العربي نحو المشاركة السياسية والتكامل على أسس العلم وحقوق الإنسان. فالقضية الفلسطينية لم تعد تختبر عدالة العالم فحسب، بل تختبر قدرة العرب على مصالحة العقل مع الفعل، والحرية مع الدولة.
فقضية فلسطين هي نقطة البدء في نهضةٍ عربيةٍ شاملة تربط بين تحرير الأرض وتحرير الإنسان، وتعيد صياغة النظام العربي على قيم العدالة والمواطنة والسيادة. من لم يلتحق بهذا المسار سيتلاشى مع زمنه، أما من التحق به، فإن غدًا لصانعه قريب جنابك. الغد