
البحر الأبيض المتوسط يشتعل بحرارة مقلقة: عواصف أعنف ومخاطر بيئية تتزايد
عمان-العقبة اليوم الإخياري
لم يعد البحر الأبيض المتوسط ذاك الامتداد الأزرق الهادئ كما تصفه كتب الجغرافيا، بل بات اليوم منطقة متقلبة وساخنة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فمع دخول صيف 2025، سجّلت مياه البحر المتوسط ارتفاعًا غير مسبوق في درجة الحرارة، تجاوز في بعض المناطق 30 درجة مئوية، وهو معدل لا يُسجّل عادةً إلا في أغسطس، وفقًا لوكالة “رويترز” التي وصفت الظاهرة بـ”موجة حر بحرية غير معتادة” ضربت السواحل الجنوبية لأوروبا في أواخر يونيو وبداية يوليو من العام الحالي.
هذا الارتفاع الحاد في حرارة مياه البحر لا يمر دون عواقب. إذ بات يشكّل أرضًا خصبة لتكوّن عواصف قوية وعنيفة تُعرف بـ”ميديكان” (Medicanes)، وهي عواصف شبيهة بالأعاصير المدارية من حيث البنية والتأثير، لكنها تتكون فوق مياه البحر المتوسط. ووفقًا لمركز “ArabiaWeather”، فإن ازدياد حرارة البحر يضخ كميات هائلة من بخار الماء في الجو، مما يوفّر الطاقة اللازمة لتطور هذه العواصف بشكل متسارع، وهو ما يزيد من شدتها وخطورتها.
وقد شهدت المنطقة خلال العامين الماضيين عاصفتين مدمرتين من هذا النوع، أبرزها العاصفة “دانيال” التي اجتاحت شرق ليبيا في سبتمبر 2023، وأدت إلى كارثة إنسانية بعد انهيار سدّي درنة وتدمير أجزاء واسعة من المدينة، في مشهد جسّد التداخل بين آثار التغير المناخي وضعف البنية التحتية. تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” نُشر في يونيو 2025 حذّر من أن استمرار ارتفاع حرارة البحر سيجعل مثل هذه العواصف أكثر تكرارًا وأوسع تأثيرًا.
الباحثون في جامعة أثينا، كما نقلت عنهم صحيفة “كاتيميريني” اليونانية، أشاروا إلى أن متوسط حرارة مياه البحر المتوسط ارتفع بما يصل إلى 5 درجات مئوية فوق المعدلات الموسمية الطبيعية، وهو ارتفاع يغيّر ديناميات المناخ الإقليمي بشكل واضح. فالمياه الدافئة لا تغذي فقط العواصف، بل ترفع أيضًا من معدلات التبخر، مما يؤدي إلى هطول أمطار غزيرة مفاجئة، غالبًا ما تتسبب في فيضانات في مدن ساحلية غير مجهزة لمثل هذه الظواهر.
الأثر البيئي لهذا التحول لا يقل خطورة، إذ تشير منظمة البحر المتوسط للتنمية المستدامة إلى أن الشعاب المرجانية والأسماك المحلية باتت مهددة، حيث تؤدي الحرارة المرتفعة إلى “تبييض” المرجان وموت الكائنات البحرية الحساسة، ما يخلخل التوازن البيئي البحري. وقد سُجّلت خلال الأسابيع الماضية ظواهر غير معتادة مثل نفوق أعداد كبيرة من الأسماك على سواحل فرنسا وإيطاليا.
ولا يقتصر التأثير على البيئة، بل يمتد إلى صحة الإنسان والاقتصاد. فارتفاع الحرارة البحرية يزيد من الرطوبة في المناطق الساحلية، مما يُفاقم موجات الحر في البر، ويزيد من الضغط على شبكات الطاقة والمياه. كما أن قطاع الصيد في دول مثل تونس واليونان وإسبانيا بدأ يشعر بتراجع المخزون البحري بسبب تغير توزيع الكائنات البحرية نتيجة لاختلال درجات الحرارة.
ورغم كل ذلك، فإن خطورة الوضع لا تقابلها استجابة كافية من دول حوض المتوسط. فمعظم المدن الساحلية لا تملك بنى تحتية مخصصة لمواجهة فيضانات عارمة أو رياح مدمرة. كما أن نظم الإنذار المبكر ما زالت تعاني من فجوات تقنية ومؤسسية، حسب ما أكدته تقارير صادرة عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP).
إن البحر الأبيض المتوسط اليوم لم يعد مجرد ممر مائي حيوي، بل بات مسرحًا متغيرًا لكوارث طبيعية تتسارع في ظل الاحترار العالمي. والمفارقة أن هذا البحر، الذي كان تاريخيًا ملتقى الحضارات، قد يتحول إلى ساحة تهدد الملايين من سكان ضفتيه.
العلماء يحذرون، والبيئة تنذر، لكن السؤال الملحّ يبقى: هل تتحرك الحكومات والمجتمعات قبل أن تصبح العواصف البحرية خبرًا يوميًا؟