تنظيم البسطات العشوائية نهج سليم … ولكن؟!

عمران السكران

119

ظاهرة البسطات العشوائية في الأسواق من الظواهر التي تعتبر سلبية .. وهذ ما نتفق عليه، ولكن تنظيم الأسواق بحملات مصادرة ومخالفات التي تنظمها جهات معنية بغض النظر أن هدفها تنظيم المظهر العام، ولكن هل هذا الإجراء ضروري في كل الفترات؟

الأرصفة التي كانت قبل أيامٍ سوقًا للحيوية، صارت فجأةً صامتةً كأنها في حدادٍ رسمي! وكأنما قالت البلدية: “لننظم المشهد، حتى لو كان الثمن أرقامًا حمراء في سجلات العاطلين”.

قبل أيام أعلنت بلدية إربد مصادرة 52 بسطة وخالفت 12 شخصا، يقفون تحت أشعت شمس إربدية ليلتقطوا قوت يومهم، ولن ننسى أن تُطمئن الجميع: “لا تقلقوا، لقد استأجرنا أراضي بديلة… في مكانٍ ما… بعيدًا عن أعين المارة! .. وكأن بائع الخضار سيُسابق الزمن ليركض خلف زبائنه إلى أطراف المدينة!

لكن العقل يتساءل بخبث: ترى، هل كانت هذه البسطات حقًا “تشويهًا حضاريًا”، أم أنها كانت واجهةً لأزمةٍ اسمها البطالة، معظم أصحابها شبابٌ قرروا أن يحوّلوا الكراتين إلى مصدر رزقٍ بدل انتظار معجزة التوظيف، فـ”التراخيص” عندهم كالطاووس  جميلة لكنها باهظة الثمن.

الحجج الرسمية لا تُهزم: البسطات تُعيق المشاة! (وكأن المدينة تحوّلت إلى ماراثون أولمبي!). وتشوّه المنظر! بينما جدرانها مغطاة بإعلانات تجميلية!، وتنافس المحال المرخصة .. منافسةٌ عادلة بين دجاجةٍ في بسطة وديناصورٍ في مجمّع تجاري.

ولأن الحل السحري دائمًا هو “الإزالة”، تُقدّم البلدية بدائلها: أراضٍ بعيدة عن أعين الزبائن، أو بأسعارٍ لا يستطيع صائد قوت اليوم تغطيتها.. والمفارقة تكمن في أن “المشهد الحضاري” الجديد يبدو رائعًا للكاميرات، لكنه فارغٌ من أولئك الذين حوّلوا الرصيف إلى سُلم نجاة.

نعم نريد مدنًا منظمةً، لكن هل يعقل أن تكون أول خطوةٍ في “التنظيم” هي سحق الفرص الهشة؟ الأرصفة الآن أنظف، والتقارير تزفّر بنجاح الحملة، لكنّ بائع البسطة – ذلك المهرّب الصغير لأمل العيش – يبحث عن ركنٍ جديد، أو عن جهةٍ تراه أكثر من بقعةً في تقرير البلدية السنوي.

وبينما تنام إربد على وسادة التنظيم، يبقى السؤال: هل نامت البلدية مرتاحةً، أم أنها حلمت بـ 52 عائلةٍ تطحنها شمس تموز؟ المشهد الحضاري الحقيقي لن يكتمل بغياب البسطات، بل بغياب جيب  إنسانٍ يبيع خيارًا ليشتري دواءً.

فالتنظيم الحقيقي يبدأ عندما ندرك أن “الرصيف النظيف” لا يساوي دمعة طفلٍ جائع. .. ولا بد في هذه المعظلة التي تتكرر كل يوم في مناطق مختلفة من المملكة لا بد من ايجاد حلول عملية .. ويطرح كثيرون تساؤلات جوهرية حول مدى عدالة هذه الإجراءات، خاصة حين تستهدف فئة من المواطنين البسطاء الذين لا يجدون مصدر رزق سوى بيع بضائعهم المتواضعة على الأرصفة، لتأمين قوت يومهم وإعالة أسرهم.

فبينما تؤكد البلديات أن هذه الحملات تهدف إلى الحفاظ على النظام العام ومنع التعديات، يرى أصحاب البسطات أن ما يجري هو تضييق على أرزاقهم دون توفير بدائل حقيقية أو حلول منصفة.

المشكلة الأساسية لا تكمن فقط في العشوائية الظاهرة للبسطات، بل في غياب سياسات احتواء ذكية توازن بين حق الدولة في التنظيم الحضري، وحق المواطن في العمل والعيش الكريم.

فغالبية من يعملون على هذه البسطات هم من العاطلين عن العمل، أو ممن لا تتوافر لهم فرص في السوق الرسمي بسبب ظروفهم التعليمية أو الاقتصادية أو حتى أعمارهم، ومع ذلك، فإنهم لا يلجؤون للتسول أو الانحراف، بل اختاروا أن يكسبوا رزقهم بكرامة.

أمام هذا الواقع، هناك جملة من الحلول العملية والبسيطة التي يمكن أن تُحدث فارقًا حقيقيًا دون الحاجة إلى ميزانيات ضخمة .. منها تخصيص أماكن دائمة ومنظمة لعمل البسطات ضمن ما يسمى بالأسواق الشعبية، وهي فكرة مجرّبة في عدة مدن أردنية، حيث يمكن للبلديات، بالتعاون مع المجتمع المحلي، أن توفر مساحات عامة غير مستغلة في أطراف الأسواق أو الساحات العامة لتكون نقاط بيع دائمة أو موسمية، مع توفير مظلات بسيطة وتنظيم المرور والنظافة فيها.

الحل الثاني يتمثل في إصدار تراخيص يومية أو موسمية رمزية لأصحاب البسطات، مقابل رسوم بسيطة، بحيث يتم تقنين عملهم بدلًا من مطاردتهم، هذه الخطوة لا تعني الاعتراف بالعشوائية، بل تقنينها ضمن ضوابط تمنع الإضرار بالمارة والمحال المجاورة، وتُشعر الباعة بأنهم جزء من المنظومة وليسوا غرباء أو مخالفين.

كما يمكن دعم تشكيل جمعيات أو تعاونيات تضم أصحاب البسطات، لتكون لهم جهة تمثيلية تتفاوض مع البلديات، وتقدم لهم التدريب في مهارات البيع أو إدارة الدخل، وربما تنظم مشتريات جماعية تخفف عنهم عبء التكاليف.

كذلك، يمكن لمؤسسات التدريب المهني ومراكز تمكين الشباب أن تفتح أبوابها لهذه الفئة، عبر ورشات قصيرة تقدم لهم أدوات لتحسين دخلهم، وتجنب الوقوع في المخالفات، بل ومساعدتهم على الانتقال إلى مشاريع أكثر استدامة.

إن الحل لا يكمن في المواجهة، بل في الاحتواء، وعلى الدولة أن تنظر إلى هؤلاء الباعة باعتبارهم شركاء في المجتمع، لا عبئًا عليه، فهم لم يطلبوا دعما ماليا، بل فقط مساحة آمنة للعمل، وإذا ما تم احتضانهم بسياسات واقعية، فإنهم سيشكلون نموذجًا في الكسب الحلال، وسيعززون ثقة المواطن بالدولة، بدلًا من أن يشعر بأنه مستهدف في رزقه وكرامته.

قد يعجبك ايضا