الروافع المالية.. حجر الزاوية في نهضة البلديات
أسامه محمد العزام
لكي تؤدي البلديات دورها الحيوي بفاعلية، لا بد أن تتمتع باستقلالية مالية حقيقية، وآلية يضمن تدفق الموارد إليها، ففي الدول المتقدمة، لا يتحقق النجاح البلدي مصادفة، بل هو ثمرة منظومة دقيقة تسعى لتحقيق التوازن بين تمكين البلديات وضمان توزيع الموارد بعدالة.
تبنى الأنظمة البلدية على ركائز وروافع راسخة، تبدأ باللامركزية المالية التي تمنح البلديات صلاحية جمع الإيرادات واتخاذ قرارات الإنفاق بما يعكس أولويات مجتمعاتها، يلي ذلك مبدأ الكفاية، الذي يضمن موارد مستقرة وكافية تمكّنها من أداء مهامها، أما الركيزة الأهم فهي العدالة، التي تهدف إلى ردم الفجوات بين البلديات الغنية والفقيرة، لضمان توفير مستوى متقارب من الخدمات الأساسية.
وتأتي الشفافية والمساءلة كركيزتين لا تقلان أهمية؛ فهما ليستا مفاهيم نظرية بل متطلبات عملية تستوجب أن تكون آليات توزيع الإيرادات واضحة، ومدعومة بأنظمة رقابة فعالة تضمن محاسبة البلديات على كل فلس ينفق، هذه الشفافية تعزز الثقة، وتحد من الهدر.
تعتمد البلديات في الدول المتقدمة على مزيج متوازن من مصادر الإيرادات، فمن جهة، هناك إيرادات ذاتية، وعلى رأسها ضرائب الأبنية والأراضي، التي تعد عمودها الفقري، وتحدد نسبتها ضمن أطر قانونية، حيث تمنح البلديات استقلالاً حقيقياً، وتشمل الإيرادات أيضاً الرسوم على الخدمات المحلية.
أما التحويلات الحكومية، فتلعب دوراً محورياً في تحقيق العدالة وسد الفجوات المالية، وتستند إلى صيغ حسابية دقيقة وشفافة تأخذ في الحسبان عدد السكان، تركيبتهم، واحتياجات الإنفاق الفعلية.
تستخدم الدول المتقدمة آليات توزيع متطورة تضمن العدالة، فالصيغ المعيارية تستخدم لتحديد حصة كل بلدية عبر معادلات معلنة، وتنشأ صناديق مساواة تعيد توزيع الفوائض أو جزء من الإيرادات المركزية على البلديات الأشد حاجة. كما تقدم منح موجهة لمشاريع تنموية.
في ألمانيا، تحصل البلديات على جزء من التمويل الحكومي إلى جانب الإيرادات المحلية، وفق نظام مساواة يأخذ بعين الاعتبار عدد السكان، وفي هولندا، يعتمد “صندوق البلديات” على نحو 60 معياراً لتحقيق عدالة التوزيع، أما في الدول الإسكندنافية، فتعتمد البلديات على ضرائب الدخل المحلية والتحويلات الحكومية لتحقيق المساواة، بينما وضعت سويسرا، رغم تعقيد نظامها الفيدرالي، آليات دقيقة تضمن عدم تعثر أي بلدية أو تدهور خدماتها.
أما في الأردن، فإن تعزيز اللامركزية وتطوير أداء البلديات يتطلب إصلاحاً شاملاً، يبدأ بوضع آلية عادلة لتوزيع الدعم الحكومي تأخذ التفاوت الجغرافي والاحتياجات الفعلية بعين الاعتبار، والأهم هو تجاوز التوزيع غير المعياري والقرارات الفردية، التي تعيق التخطيط.
لا بد من نظام مؤسسي يستند إلى بيانات دقيقة ويستجيب للاحتياجات الحقيقية، مع تعزيز الرقابة المجتمعية على الإدارة المالية، ليكون المواطن على دراية بكل ما يُصرف ويُخطط له.
تحقيق العدالة المالية للبلديات ليس ترفاً، بل ضرورة وطنية لتحقيق تنمية متوازنة، فهو الضمان الحقيقي لمجتمعات مزدهرة، ومواطنين راضين، وبلديات قادرة على أداء دورها كما يجب، هذا هو طريق النهضة الشاملة.