لماذا لا ينعكس النمو على فرص العمل؟
لماذا لا ينعكس النمو على فرص العمل؟
د. رعد محمود التل
كثيرًا ما يُطرح سؤال عن سبب عدم انعكاس النمو الاقتصادي المتحقق على أرقامالبطالة. وهو سؤال مشروع ومهم، إذ تكشف الإجابة العلاقة بين النمو الاقتصاديوالبطالة في الأردن. فعلى الرغم من تسجيل معدلات نمو إيجابية خلال السنواتالأخيرة، إلا أن هذا النمو لم ينعكس بصورة كافية على فرص عمل! فهل كل زيادة فيمعدل النمو الاقتصادي يرافقها بالضرورة انخفاض مماثل في معدل البطالة؟ الإجابةللأسف لا، لكن الأهم هو لماذا؟ وهذا يفتح الباب لتحليل أسباب ضعف الأثر التشغيليللنمو في الاقتصاد الأردني.
المقصود بالأثر التشغيلي للنمو هو تأثير نمو القطاعات الاقتصادية المختلفة على خلقفرص عمل حقيقية في سوق العمل الأردني. وللإجابة، يجب تحديد القطاعات الأكثرمساهمة في الناتج، والأسرع نموا، والأعلى قدرة على خلق فرص العمل. فأي القطاعاتتشكل أعلى مساهمة في الناتج المحلي الإجمالي؟ وأي منها ينمو بصورة أسرع؟ حسبأرقام الربع الثاني للعام الحالي، فإن القطاعات الأعلى مساهمة في الناتج كانت: قطاعالمالية والتأمين والخدمات العقارية (18.3%)، يليه قطاع الصناعة التحويلية(18.2%)، ثم قطاع “منتجو الخدمات الحكومية “(12.6%). أما القطاعات ذات النموالأعلى فكانت: قطاع الزراعة (8.6%)، قطاع الصناعة التحويلية (5%)، وقطاع الكهرباءوالمياه (4.9%).
من هذه الأرقام يظهر السؤال الأهم: أي من تلك القطاعات كثيفة رأس المال وأيهاكثيفة العمالة؟ وما نعنيه بكثافة رأس المال هو نسبة رأس المال إلى العمالة في عمليةالإنتاج، في حين تشير كثافة العمالة إلى العكس. أعلى القطاعات مساهمة في الناتج هوقطاع المالية والتأمين والخدمات العقارية، وهو من القطاعات كثيفة رأس المال أكثرمن كونه كثيف العمالة، وقد كان معدل نموه في الربع الثاني من هذا العام 1.6% فقط.
أما القطاع الثاني من حيث المساهمة في الناتج فهو قطاع الصناعات التحويلية، الذييساهم بصورة كبيرة في الناتج ونما بصورة أسرع من غيره من القطاعات. لكنالصناعات التحويلية ليست كلها كثيفة العمالة؛ فالأمر يختلف حسب نوع الصناعةوتطورها التكنولوجي. بعض الصناعات التحويلية التقليدية مثل النسيج والأغذية كثيفةالعمالة، بينما تعتمد الصناعات الحديثة والمتقدمة على التكنولوجيا والأتمتة، مما يقللعدد العمال المطلوبين مباشرة. ومع ذلك، فإن نمو هذا القطاع ينعكس بصورة مباشرةعلى تخفيض أرقام البطالة.
بالنسبة لقطاع منتجو الخدمات الحكومية (الصحة والتعليم والخدمات الحكومية)،فيُعد من القطاعات كثيفة العمالة، لكن نموه منخفض ومساهمته في الناتج ليستالأعلى، وبالتالي فرص خلق وظائف فيه ضعيفة. بالمقابل، قطاع الزراعة كثيف العمالة،وقد حقق أعلى نمو،خلال الربع الثاني، لكنه لم ينعكس على فرص العمل الحقيقيةلسببين: الأول، مساهمته الضعيفة في الناتج بحوالي 4.3%، والثاني، أن أغلب العاملينفيه من العمالة الوافدة لأسباب تتعلق بالبيئة التشغيلية التي يعزف عنها الأردنيون.
كل ذلك يؤكد أن زيادة النمو الاقتصادي لا تؤدي بالضرورة إلى انخفاض البطالة تلقائيًا. والسؤال الأهم هو: في أي القطاعات الاقتصادية يحدث النمو؟ هل في القطاعات كثيفةالعمالة القادرة على خلق فرص عمل واسعة، أم في القطاعات كثيفة رأس المال التيتحتاج عددًا أقل من العمال؟ وهذا ما يجب النظر إليه بعمق من قبل الفريق الاقتصاديبالحكومة، لأن هذا التباين بين نوعية النمو وقدرته على التوظيف يمثل المفتاحالأساسي للإجابة على سؤال: لماذا لا ينعكس النمو على أرقام البطالة؟ فالنمو الإيجابيلوحده غير كافٍ للتخفيف من البطالة.
سبب آخر مهم لدراسة علاقة النمو بالبطالة هو الإنتاجية الكلية، أي التحسن في كفاءةاستخدام العمل ورأس المال، والتي تعد منخفضة في الأردن. فقد بلغ متوسط مساهمةالإنتاجية الكلية في نمو الناتج خلال العقد الأخير حوالي 0.3 نقطة مئوية، وهو مستوىأقل بكثير من الدول التي يقودها الابتكار والكفاءة، حيث تتراوح بين 1 و2%. لذلك، فإنارتفاع النمو لا يعني بالضرورة خلق وظائف جديدة، لأنه غالبًا ما يكون نتيجة تحسينالإنتاجية. فزيادة الإنتاجية تعوض عن الحاجة لتوظيف المزيد من العمال، خصوصًاعندما تكون الإنتاجية الكلية منخفضة في الأساس.
ما الحل حتى يقلل النمو الاقتصادي من البطالة؟ ببساطة، التركيز على القطاعاتالإنتاجية ذات القدرة العالية على استيعاب اليد العاملة، وهي القطاعات القادرة علىتوفير فرص عمل واسعة ومستدامة. فالتوسع في التعليم المهني والتقني بما يتوافق معمتطلبات السوق، وتوجيه النمو نحو القطاعات كثيفة العمالة، كلها خطوات أساسيةلتحويل النمو من مجرد أرقام في الناتج المحلي إلى محرك حقيقي للتوظيف وزيادةالإنتاجية، مع مراعاة أهمية القطاعات كثيفة رأس المال، التي تجذب المستثمرين لأنهاتنمو بسرعة أكبر.هذا الفهم لطبيعة وهيكل النمو للاقتصاد الأردني يجب أن لا يكونعابرًا، بل ضرورة ليُترجم النمو الاقتصادي واقعًا فعليًا في حياة المواطنين وينعكسفرصًا للعمل.