الشرق الأوسط في قلب تنافس القوى الكبرى
الشرق الأوسط في قلب تنافس القوى الكبرى
د.محمد الطماوي
يشهد الشرق الأوسط مرحلة إعادة تشكل واسعة في خريطة النفوذ السياسي، مدفوعةبتنافس اقتصادي محتدم بين القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصينوروسيا، إلى جانب صعود أدوار لقوى صاعدة مثل الهند، هذا التنافس لم يعد عسكرياأو أمنيا فقط كما كان في العقود السابقة، بل أصبح اقتصاديا في جوهره، يعتمد علىالاستثمارات، وبناء الموانئ، وممرات الطاقة، والتكنولوجيا، والبنية التحتية، وهو ماجعل المنطقة مركزا لإعادة توزيع موازين القوى على المستويين الإقليمي والدولي.
تاريخيا، كانت الولايات المتحدة اللاعب المهيمن في الشرق الأوسط منذ الحربالعالمية الثانية، إذ ضمنت تدفق النفط العالمي، وأقامت تحالفات أمنية مع دولالخليج، وحافظت على وجود عسكري دائم في المنطقة، غير أن العقد الأخير شهدتراجعاً نسبيا في النفوذ الأمريكي، لصالح توسع متسارع للصين التي باتت اليوم أكبرشريك تجاري لمعظم دول المنطقة، حيث بلغت قيمة استثماراتها المباشرة في الشرقالأوسط نحو 29.7 مليار دولار مقابل نحو 7 مليارات فقط من الولايات المتحدة وفقاًلتقديرات مؤسسة كارنيغيعام 2024.
روسيا من جانبها تحافظ على حضورها التقليدي في مجالات الطاقة والسلاح، مستفيدةمن علاقاتها القوية، ومن عقود الغاز والنفط التي تبرمها مع دول مثل مصر والسعودية،ومع ذلك فإن نفوذها الاقتصادي يبقى محدودا مقارنة بالصين، رغم محاولتها فتحقنوات مالية وتجارية جديدة بعد الحرب الأوكرانية، لتخفيف آثار العقوبات الغربية، هذاالتعدد في اللاعبين يخلق بيئة معقدة، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى مع مصالحالدول الإقليمية، وتتحول المنافسة الاقتصادية إلى أداة لإعادة توزيع الأدوار السياسيةفي المنطقة.
لم تعد الدول الشرق أوسطية تقبل أن تكون مجرد ساحات نفوذ لقوة واحدة، بل باتتتنتهج ما يعرف بسياسة “التوازن المتعدد”، فتنسق أمنيا مع الولايات المتحدة،وتستثمر مع الصين والهند، وتتعاون دبلوماسياً مع روسيا وأوروبا، هذا التنوع فيالعلاقات يمنحها استقلالية أكبر في القرار السياسي، ويجعلها قادرة على المناورة بينالقوى المتنافسة، فالسعودية مثلا، حافظت على تحالفها الأمني مع واشنطن، سارعتفي عمل اتفاقية دفاع مشترك من جهة أخرى مع باكستان النووية، لكنها في الوقتنفسه أصبحت الشريك الاقتصادي الأكبر لبكين في المنطقة، وهو ما منحها مساحةتفاوضية أوسع، ورفع من قيمتها الاستراتيجية في عيون جميع الأطراف، أما الإماراتفقد نجحت في أن تتحول إلى مركز مالي وتجاري عالمي يستقطب الشركات الأمريكيةوالأوروبية والآسيوية في آن واحد، بينما تتجه مصر إلى تعزيز موقعها كممر رئيسيللتجارة والطاقة بين أفريقيا وآسيا وأوروبا من خلال قناة السويس والمناطقالاقتصادية المحيطة بها.
في هذا السياق الجديد، لم يعد النفوذ يقاس بعدد القواعد العسكرية أو التحالفاتالأمنية، بل بحجم الاستثمارات، وقدرة الدول على جذب رؤوس الأموال، واحتضانالمشاريع العابرة للحدود، فالقوة الناعمة الاقتصادية أصبحت أكثر تأثيراً من القوةالصلبة في صياغة موازين النفوذ، الصين مثلاً لا تفرض شروطاً سياسية على شركائهاكما تفعل القوى الغربية عادة، بل تقدم حزم تمويل واستثمارات ميسرة، وهو ما يجعلهاأكثر قبولا في بعض الدول النامية، وفي المقابل، بدأت الولايات المتحدة والاتحادالأوروبي في إعادة صياغة استراتيجياتهما عبر برامج مثل “الشراكة من أجل البنيةالتحتية العالمية” لتوفير بدائل منافسة للمشاريع الصينية.
الأرقام تكشف حجم التحول في مركز الثقل الاقتصادي، فالسعودية وحدها تنتج نحو12% من النفط العالمي، وتبلغ قيمة اقتصادها أكثر من 1.1 تريليون دولار، ما يجعلهاثاني أكبر اقتصاد عربي بعد مصر، التي تعد وفق تقرير راند كوربوريشن الدولة الأكثرقابلية لاستقطاب التنافس بين القوى الكبرى بسبب موقعها الجغرافي ومكانتهاالإقليمية، أما الإمارات فصناديقها السيادية تتجاوز أصولها مجتمعة تريليون دولار، مايجعلها قادرة على توجيه الاستثمارات نحو آسيا وأوروبا في الوقت ذاته، وهو ما يعززدورها كوسيط ومركز نفوذ مالي، هذه الأرقام توضح أن النفوذ لم يعد يحتكر منالخارج، بل أصبح للدول الإقليمية دور متزايد في صياغته وتوجيهه.
ومع ذلك، فإن هذا التنافس لا يخلو من مخاطر. فالتوسع في الاعتماد على الاستثماراتالخارجية قد يضع بعض الدول تحت ضغط القوى الكبرى، خاصة إذا ارتبط التمويلبشروط سياسية أو أمنية، كما أن تصاعد التنافس بين الصين والولايات المتحدة قديحول المنطقة مجدداً إلى ساحة صراع غير مباشر، عبر العقود، والتجارة، والتحالفاتالاقتصادية، ولهذا، تحتاج دول المنطقة إلى إدارة دقيقة لعلاقاتها الخارجية، تحفظ لهااستقلال القرار دون أن تفوت فرص التنمية، فالموازنة بين الانفتاح على الاستثماراتوبين حماية السيادة الوطنية أصبحت معادلة شديدة الحساسية.
من جهة أخرى، فإن التنافس الاقتصادي يوفر فرصاً غير مسبوقة لتسريع التحولالتنموي، دول الخليج، على سبيل المثال، تستثمر الفوائض المالية في مشروعاتالطاقة النظيفة، والتكنولوجيا، والمدن الذكية، وتعمل على جذب الاستثمارات الغربيةوالآسيوية في آن واحد. ومصر تواصل تعزيز موقعها كمحور لوجستي إقليمي من خلالالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، بينما بدأت الأردن والمغرب وموريتانيا في الدخولإلى سوق الهيدروجين الأخضر الذي تتنافس فيه أوروبا والصين، هذه التحولات تجعلمن المنطقة مختبرا لاقتصاد ما بعد النفط، وتحوّل المنافسة بين القوى الكبرى إلىمصدر تمويل للتنمية وليس عبئاً جيوسياسياً فقط.
إن خريطة النفوذ السياسي الجديدة في الشرق الأوسط تتشكل على قاعدة منطق“الشراكة لا السيطرة”. فالقوى الكبرى لم تعد قادرة على فرض إرادتها كما في السابق،والدول الإقليمية لم تعد مجرد أدوات، بل باتت أطرافاً فاعلة تحدد مصالحها وفقاًلأولوياتها الوطنية، النفوذ لم يعد حكراً على الغرب، بل بات موزعاً بين الشرق والغربمعاً، وفق منطق اقتصادي متشابك، يعكس توازنات جديدة في النظام الدولي.