ماذا بعد الاعتراف بدولة فلسطين؟

راكان السعايدة

71

الاعترافات المتتالية بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة وما قبلها، ليست أكثر من ذر للرماد.
أقبل أن يُقال إن لهذه الاعترافات رمزية سياسية، لكن لا آخذها على محمل الجد، ولا أقيم لها وزناً، لأنها ببساطةٍ شديدة لا يمكن أن تُفضي إلى دولة فلسطينية على حدود 1967.
لماذا ذلك..؟
أولاً: لا “إسرائيل” ولا أميركا مع إقامة دولة فلسطينية، وحقائق الأرض تؤكد ذلك: مصادرة أراض، توسيع مستوطنات، إنشاءُ بؤر استيطانية، مئات الحواجز، فصل شمال الضفة عن جنوبها… وكل ذلك تُسنده قراراتُ الكنيست، التي تمهد لفرض عملي للضم وفرض السيادة على الضفة الغربية.
ثانياً: الاعترافات بالدولة الفلسطينية بلا مخالب. إذ قبل هذه الموجة من الاعترافات كانت قد اعترفت 147 دولة في العالم بدولة فلسطين، فما النتيجة؟ لا شيء.
لأن الترجمة الحقيقية للاعترافات تكون بقرارات مجلس الأمن، ويجب أن تكون هذه القرارات تحت البند السابع الذي يسمح باستخدام القوة لفرض تنفيذها. وهذا لن يحدث ما دامت أميركا حاضرة ومتحفِّزة دائماً لاستخدام الفيتو.
ثالثاً: الضعف العربي وقلة الحيلة لا يمكن أن يُشكلا حالة ضغط على أميركا ولا على دول الاعترافات السابقة أو اللاحقة لفرض قرار إقامة الدولة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف. الرسمي العربي يدرك جيداً أنه عاجز ولا يستطيع أن يفرض قراراتٍ أو يغير اتجاهات لا في “إسرائيل” ولا في أميركا.
وهو يعلم أن أقصى ما يمكن أن تعطيه “إسرائيل” هو عدد من المدن المحاصرة التي تحكم نفسها بنفسها على طريقة “روابط القرى”.
رابعاً: بما أن العربي الرسمي لا يستثمر في المأزق الإسرائيلي عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، ولا يعمل على تعميقه، فإن هذا الكيان سيكون قادراً على إعادة إنتاج ذاته وترميم واقعه الداخلي وعلاقاته الخارجية. فالغرب متسامح مع هذا الكيان، ولن يجد صعوبة في تجاوز جرائمه، وقد تجاوزها من قبل.
خامساً: وهو أمر مهم، أن أغلب الاعترافات مشروطة بتصفية المقاومة ودورها ووجودها، أي أن تخرج من دائرة التأثير والفعل بكل أشكاله، وأن تكون الدولة منزوعة السلاح، وغيرها من الشروط التي تُفرغ الاعترافات من مضمونها.
إذن، ما فائدة كل هذه الاعترافات..؟
بتقديري، لا فائدة منها. والفلسطيني قبل العربي يُدرك ذلك ويعيه، ويعلم أن حقائق الأرض لن تؤدي بهذه الاعترافات إلى نتيجة، وهذا يساعد على فهم بعض أسباب موجة الاعترافات المشروطة، التي ترجع إلى:
أولاً: أن الدول الأوروبية التي اعترفت بالدولة الفلسطينية تُعاني من تراجع مفرط في الشعبية نتيجة أسباب داخلية وخارجية، وبخاصة بسبب حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
وهذه دول فيها ديمقراطية وقيمة لصناديق الاقتراع، أي أن الناخب الأوروبي يملك القدرة على التصويت العقابي وطرد القوى الحزبية التي تواطأت بطريقة أو أخرى مع الإجرام الصهيوني. والحكومات الأوروبية تريد إنقاذ نفسها من غضب شعوبها.
ثانياً: أن أوروبا تريد إنقاذ “إسرائيل” من نفسها.. بمعنى أن أوروبا، التي لن تفرّط في هذا الكيان أبداً، تسعى لإنقاذه من بنيامين نتنياهو وقوى اليمين التي تدفع به إلى الفناء. فعلى الرغم من ميل الإسرائيليين إلى اليمين واليمين المتطرف، فإن أوروبا تحاول مدّ المعارضة بأسباب القوة لفرملة اليمين.
ثالثاً: أن الغرب عموماً لطالما اعتبر نفسه المدافع عن قيم العدالة وحقوق الإنسان. وهذه القيم تُذبح من الوريد إلى الوريد في قطاع غزة، وقد صمت عن هذا الإجرام لعامين تقريباً، لكن فشل الكيان في تحقيق أهدافه التي دعمها الغرب بات عبئاً يصعب احتماله أو تحمّل كلفته.
هذا تقييم أولي لما يحدث. أولي لأن المشهد فيه قدر هائل من السيولة ويتوافر على تناقضات كبيرة.
لكن واقع الحال يقول إن كل ما فعلته أوروبا وما تفعله من اعترافات بالدولة الفلسطينية لا أثر عملي له، طالما لا يتوافر على إجراءاتٍ عملية تجعله واقعاً.
والأهم أن هذه الاعترافات المشروطة، ذات الطابع السياسي والمعنوي، لن تمنع الكيان الصهيوني من إتمام سلسلة جرائمه في قطاع غزة وتصعيدها في الضفة الغربية وحتى في المحيط العربي.
إن الواثق بأوروبا وأميركا سيدفع ثمن غياب وعيه وقصور إدراكه وتواطُئه.
ما العمل إذن..؟
ضمن الوضع الحالي للدول العربية، وإذا ما بقيت على ما هي عليه من التخاذل وعدم التجانس، ستفعل “إسرائيل”، مدعومة من أميركا، في غزة والضفة الغربية والقدس المحتلتين ما تريد، وستنفذ مخططاتها التي هي قيد التنفيذ في الميدان، ناهيك عما تفعله في سوريا ولبنان بلا رادع وبغطاء أميركي حاسم.
والدرس الذي يجب استيعابه جيّداً من العدوان الصهيوني على سيادة قطر، هو أن لا أحد بمنجاة من الخطر الصهيوني المتعاظم، الذي يريد فرض هيمنته بالقوة الناعمة أو الخشنة على الدول العربية، وبخاصة دول الجوار (الأردن ومصر).
على ذلك، ينبغي للدول العربية أن تستعد جيداً وأن توحد جهودها لتحقيق جملة من الأهداف، أولها بالضرورة إجبار “إسرائيل” على الوقف الفوري لحرب الإبادة على غزة، ووقف التصعيد والإمعان في تفتيت الضفة الغربية المحتلة وهضم أراضيها.
هذا يقتضي بالضرورة:
أولاً: أن تُهدد الدول العربية المرتبطة بعلاقات مع الكيان بتجميد هذه العلاقات ما لم تُوقف حربها وتتوقف عن رفض إقامة الدولة الفلسطينية.
ثانياً: تنسيقاً عالي المستوى مع الدول الإسلامية لتشكيل جبهة ضاغطة داخل الأمم المتحدة، وعلى أميركا والغرب و”إسرائيل” في ذات الوقت، وبخاصة الدول المهددة عملياً من “إسرائيل”، وهي تركيا وإيران وباكستان.
ثالثاً: أن تعمل المجموعة العربية بمختلف الوسائل على دعم صمود الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس المحتلتين، وتثبيتهم في أرضهم، ومنع أي شكل من أشكال التهجير وتفريغ الأرض من سكانها.
رابعاً: الضغط على أوروبا بمختلف الوسائل المتاحة لفرض عقوباتٍ حازمة ومؤثرة على “إسرائيل”، تجبرها على وقف شلال الدماء والانصياع للشرعية الدولية.
خامساً: الضغط على أميركا، التي هي الدولة الأعظم تأثيراً والأكثر دعماً للسياسات الإسرائيلية التوسعية، لمنعها من استخدام الفيتو أو على الأقل دفعها إلى الامتناع عن التصويت عند طرح أمر الدولة الفلسطينية على مجلس الأمن.
لمن يظن أن الدول العربية لا تمتلك القدرة على تنفيذ هذه الخطوات، نؤكد أنها قادرة على ذلك وأكثر. المعضلة تكمن فقط في توافر الإرادة لتحقيقها.

قد يعجبك ايضا