بين (Wi-Fi) الحاضر و(نُط الحبل) الماضي: أين اختبأت الحارة؟!

عمران السكران

91

كان يا ما كان، في زمنٍ لم يكن فيه (شحن)، إلا للهاتف الأرضي، ولا تنبيهات إلا من صوت الجدة وهي تصرخ: “يا وليدي تعال تغدى قبل ما يبرد الأكل!” أو لصوت “زوجة جارنا” وهي تصرخ على أطفالها .. كانت البيوت تضجّ بالحياة، والشوارع تضجّ بالصراخ، وأطفال الحارة يتناوبون في لعب “الغمّيضة”، بينما الآباء يتناوبون على رواية حكاياتهم البطولية في تجمع لأباء وأجداد الحارة أمام “دكانة أبو العبد”،يجلسون في مؤتمر مسائي على كراسي صنعت من كراتين البيض في مشروع يتربع على أولويات التدوير البيئي.

في ذاك الزمن، كانت العائلة تجتمع حول مائدة واحدة، يتسابق فيها الإخوة على آخر قطعة دجاج، والجميع ينتظر “الجد” ليحكي قصة فيها ذئب، وجمل، وثلاثة لصوص، ينتهي أمرهم دومًا في بئرٍ عميق لا نعرف من حفره حتى الآن، أو حكاية الجدة بطلها “أبو إجر مسلوخة” .. مين سلخها للأن أبحث عن الإجابة بين طيات محركات البحث.

الألعاب الشعبية؟ في ذمة الله .. “السبع حجار”، “الاستغماية”، “شد الحبل”، ولعبة “الخريطة” و”نُط الحبل” .. نعود إلى منازلنا بعد معاركنا اليومية في أروقة حارات المنطقة بجروح وغبار في انحاء جسدنا … كلها صارت ضمن مقتنيات الذاكرة، تلك التي يمسحها الأبناء كلما امتلأ هاتفهم بـ”فلاتر” جديدة”، واليوم إن أراد طفل أن يلعب، يحتاج “VPN” أكثر مما يحتاج “صاحب حارة”.

وأما “صحبة الحارة؟” فقد استبدلت بـ”متابعين”، بعضهم في كندا، وبعضهم في السنغال، وأغلبهم لا يعرف من أنت إلا عبر “البيو” .. علاقات منزوعة اللمس والدسم، ومفلترة، وسريعة الحذف إن لم تعجبك الـ”ستوري”.

وكم نفتقد تلك الليالي التي كانت فيها الجدة تجمعنا على قصص “المرأة ذات الظفر الطويل”، والأم تغني “نامي نامي يا صغيري”، والأب يعود إلى البيت كقائد معركة، يخلع حذاءه “درعه” الذي يحارب فيه لإنتزاع لقمة أولاده، ويحكي عن مغامراته في زحمة السير وفي العمل وعند حسبة الخضار وكأنها نزال في طروادة!

أما اليوم؟ فلكل فرد في العائلة جهاز، ولغة، ووجهة اتصال، الأم ترسل “إيموجي” لوجه قطة خبيثة وهي تجلس بجوار ابنها، والابن يرد عليها بـ “تيك توك” ساخر، والأب؟ لا يزال يروي مغامراته لكن عبر “حالة واتساب” لا يتفاعل معها أحد.

الطفولة اليوم أنيقة، وملونة، ومتصلة بالإنترنت… لكنها تفتقد الطين في الجوارب، والخدوش على الركب، وأغطية زجاجات الكولا وعيدان الدورادو وعلب البيبسي التي كنا نركلها كأنها كأس العالم.

لم نقل إن الماضي أفضل، لكننا فقط نشتاق إليه، نشتاق لصوت أم تنادي من الشباك: “ارجع عالبيت قبل المغرب، وإلا..”، ولصديق ينتظرك على الزاوية، لحارةٍ كانت تعرف أسماءنا وأحلامنا، ولجارة كانت تعرفنا أكثر من أمهاتنا، لحارة لا تحتاج لـ”تحديد موقع” لنجدها، عندما نتوه في زحمة الحياة.

في زمن التقنية، أصبحنا أقرب من أي وقت مضى… لكننا، وبطريقة سحرية جدًا، أبعد ما يكون عن بعضنا البعض.

قد يعجبك ايضا