رجل السياسة ورجل العلم قراءة فيبرية في الوعي الثوري العربي

235

علياء الكايد

لم تكن الثورات العربية حدثا عابرا في التاريخ الحديث، بل كانت زلزالا كشف عمقالتصدعات في العقل العربي، أكثر مما كشف فساد الأنظمة.

خرجت الجماهير في لحظة من الصدق التاريخي، تحمل النية الخالصة للتغيير، لكنهاواجهت منظومة تملك عقل التنظيم لا حرارة العاطفة.

ومن هنا بدأ الفشل لأن النقاء الثوري حين يترك بلا عقل ينظمه يتحول إلى انفعاليتبخر، لا إلى فعل ينتج.

لقد أفرزت التجارب الثورية العربية معضلة الوعي لا الشرعية، والخلل لم يكن فيشجاعة الشعوب، بل في غياب “رجل العلم” القادر على تنظيم الفعل، و“رجلالسياسة” القادر على تحمّل نتائج القرار.

ولعل هذا هو ما قصده ماكس فيبر حين فرق بين أخلاق الاعتقاد وأخلاق المسؤوليةفالأولى تحرك النوايا، والثانية تنظم الواقع.

وما لم يلتق الاثنان، تتحول الثورة إلى حريق بلا اتجاه.

حين قدم فيبر محاضرته الشهيرة «رجل العلم ورجل السياسة»، لم يكن ينظر للفصلبينهما، بل كان يحذر من انفصالهما فرجل العلم، عنده، ليس منزوياً في برج  أكاديمي،بل هو حامل للمعنى في وجه الفوضى.

ورجل السياسة الحقيقي ليس تاجر سلطة، بل مهندس الواقع على ضوء المعرفة.

لكن العالم العربي لم يفهم هذه العلاقة.

فالمثقف العربي ظل يحلم بثورة طاهرة لا تلوثها السياسة،

والسياسي العربي ظل يعتقد أن الإدارة تغني عن الفكر.

وحين اصطدمت النية بالواقع، كان النصر دائما للواقع، لأن النية لم تصاغ بعقل منظم.

إن “العقلنة” التي تحدث عنها فيبر ليست ضد العاطفة، بل ضد الفوضى.

وهي بالضبط ما نفتقده  تلك القدرة على تحويل الإيمان إلى خطة، والاندفاع إلىمشروع، والغضب إلى تنظيم.

و في التجارب الحديثة، برز “رجل العلم” العربي في صورتين مشوهتين إما المثقفالذي انسحب من الواقع مكتفيا بالتنظير،أو المفكر الذي باع علمه للسلطة مقابل نفوذأو مكانة.

أما “رجل السياسة”، فظل هو ذاته منذ الاستقلال: ابن اللحظة لا ابن الفكرة،يرى فيالحكم غاية لا وسيلة،ويستبدل مفهوم “المسؤولية التاريخية” بمفهوم “النجاةالشخصية”.

وهكذا تحولت العلاقة بين الفكر والسياسة إلى قطيعة:

فالفكر بلا سلطة، والسلطة بلا فكر.

فانفصلت المعرفة عن القرار، وغابت الرؤية عن الفعل،

وباتت الدولة العربية تدار بغرائز البقاء لا بمنطق البناء.

يقول فيبر إن السياسة هي الصراع المستمر بين الشيطان والضمير، ولا ينجو فيها إلامن جمع بين الحماسة والعقل.

وهذا بالضبط ما افتقدته الثورات  العربية الجمع بين الحماسة والعقل.

لقد خاض الثوار معركتهم بأخلاق الاعتقادبالنقاء والإيمان المطلقلكن خصومهمخاضوها بأخلاق المسؤوليةبالحساب والدهاء والتنظيم.

وهنا انتصر من فهم شروط اللعبة، لا من امتلك عدالة القضية.

الثورة، كما يصفها فيبر ضمنيا، ليست انفعالا بل علم.

ولذلك تحتاج إلى حزب عقلاني لا جماعة غاضبة،وإلى مفكر سياسي لا واعظٍ ثوري،وإلىمشروع يربط بين الحلم وإدارة الممكن.

فيبر لو عاش زمننا العربي الحالي ، لقال إن الثورة التي لا تعرف بنيتها الاجتماعية ولاخريطتها الطبقية ستعيد إنتاج من ثارت عليهم، لأن الغضب بلا نظرية هو مادة خام فييد الأقوياء.

العالم العربي بحاجةٍ إلى ثورة في الوعي قبل الثورة في الشارع.

ثورةٍ تعيد بناء العلاقة بين رجل العلم ورجل السياسة على قاعدة جديدة أن يكون الأولمرشدا للمعنى لا تابعا للسلطة،

وأن يكون الثاني مسؤولا عن الفعل لا أسيرا للغرور.

فيبر دعا إلى “الأخلاق المزدوجة” التي توازن بين القناعة الداخلية والنتيجةالخارجية،وهذا بالضبط ما نفتقده في عالمنا العربي،حيث تحكمنا المواعظ أوالمكايدات، لا الحسابات الواقعية لمستقبل الأمة.

إن الوعي العربي القادم يجب أن يتجاوز الانقسام بين المثقف المعزول والسياسيالمهووس.

يجب أن ننتج نموذج “العقل الثوري المنظّم” عقل يجمع بين حرارة الإيمان وبرودةالتحليل،عقل يرى في الثورة مشروعا معرفيا لا صرخة غضب.

في النهاية، لم تفشل الثورات العربية لأنها بلا عدالة، بل لأنها بلا علم.

ولم تنتصر الثورات المضادة لأنها أكثر شجاعة، بل لأنها أكثر تنظيما.

العرب اليوم أمام مفترقٍ جديد إما أن نعيد للعقل مكانته في الفعل،أو نعيد للتاريخدورة الفشل ذاتها تحت شعارات مختلفة.

إن الثورة الحقيقية ليست في كسر النظام، بل في بناء وعي جديد يصوغ النظام القادم.

ثورة لا تهتف فقط “الشعب يريد”، بل تعرف أيضًا “كيف يريد، ولماذا يريد، وإلى أينيذهب بعد أن يريد”.

لقد آن للعرب أن يدركوا أن الثورة ليست نقيض الدولة،

بل نقيض الجهل الذي ينتج الاستبداد في كل دورة.

وأن الحرية لا تولد من الغضب، بل من المعرفة المنظمة.

فحين يلتقي رجل العلم برجل السياسة،يولد التاريخ من جديد،ويتحول الحلم إلىدولة،والنية إلى وعي،والثورة إلى مشروع مستمر لا يخطف ولا يهزم.

قد يعجبك ايضا