غزة بين مصر وإسرائيل: قراءة في خيار عودة الإدارة المصرية بعد الحرب
د. خالد وليد الغزاوي
وسط الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، تتجدّد التساؤلات حول مستقبل هذا الجزء الصغير من فلسطين الذي أصبح عنوانًا للأزمات المتكرّرة. وفي خضم البحث عن حلول تنهي مأساة الغزيّين وتضع حدًا لدائرة العنف، يبرز اقتراحٌ مثير للجدل: إعادة غزة إلى الإدارة المصرية، أو تسليمها لمصر لتديرها بشكل مباشر أو مؤقت. فهل يُمكن لهذا السيناريو أن يشكّل مخرجًا عمليًا؟ وما هي خلفياته التاريخية ومكاسبه ومخاطره لكل الأطراف؟
بعد حرب 1948 ونشوء إسرائيل، وُضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية. أنشأت القاهرة ما عُرف بـ”حكومة عموم فلسطين”، التي كانت ذات طابع رمزي، فيما ظل القرار الفعلي بيد الحاكم العسكري المصري. ففي الفترة الأولى (بين عامي 1948–1956) تميز الحكم المصري بفرض الأمن وتقديم بعض الخدمات الأساسية، مع فتح قنوات اقتصادية وتعليمية مع مصر. وفي عام 1956 (مرحلة العدوان الثلاثي)، احتلت إسرائيل القطاع مؤقتًا، لكن القاهرة استعادته عام 1957 تحت ضغط دولي. ولمدة عشرة أعوام بعد ذلك الفترة (بين 1957–1967)، شهدت غزة خلالها إدارة مباشرة من ضباط مصريين، مع دعم نسبي للبنية التعليمية والصحية، وارتباط متزايد بالقضية الفلسطينية على الساحة العربية، لكن انتهت هذه التجربة مع هزيمة 1967، حين وقعت غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي الكامل. لكن ماذا جنت غزة من تبعيتها لمصر؟
رغم الصعوبات الاقتصادية والقيود الدولية، فإن فترة الإدارة المصرية تركت بعض الآثار الإيجابية: أولها استقرار إداري نسبي، من خلال وجود مؤسسات شرطية وقضائية مرتبطة بمصر، ما أتاح حدًا أدنى من النظام في الحياة اليومية. وانفتحت الأسواق المصرية أمام منتجات غزة الزراعية، وحصلت الأخيرة على إمدادات من السلع الأساسية عبر معبر رفح، كما لعبت مصر دورًا بارزًا في إنشاء المدارس، إرسال المعلمين والأطباء، واتاحت الجامعات المصرية فرص التعليم لطلاب غزة. واخيراً، وفرت القاهرة مظلّة سياسية عربية، وغطاءً سياسيًا للقضية الفلسطينية، ودافعت عنها في المحافل الدولية.
ومع ذلك، عانت غزة من الفقر وكثافة سكانية خانقة وبنية تحتية ضعيفة، ما جعلها تعتمد على المساعدات بشكل مستمر. لكن من وجهة نظري المتواضعة، فإن هناك مجموعة من الفوائد المحتملة لإعادة غزة إلى مصر اليوم،. فعلى المستوى الفلسطيني، سيضمن ذلك عودة قدر من الاستقرار الأمني والإداري، خاصة إذا ترافق ذلك مع إشراف دولي وضمانات عربية، كما سيسمح ذلك بفتح المجال أمام إعادة الإعمار بتمويل عربي ودولي عبر بوابة مصرية معترف بها، واخيراً، تسهيل حركة البضائع والأفراد، بما يخفّف الحصار المفروض منذ سنوات. أما بالنسبة لمصر، فيساهم ذلك في تعزيز مكانتها كقوّة إقليمية محورية، ودورها التاريخي في القضية الفلسطينية، كما سيوفر فرص اقتصادية هائلة عبر مشاريع إعادة الإعمار، تشغيل شركات المقاولات والطاقة والنقل المصرية. كما سيضمن ذلك لمصر ضبط أمن حدودها الشرقية ومنع الفوضى والتهريب، هذا بالإضافة للمكاسب الدبلوماسية مع الغرب (والتي تحتاجها مصر اليوم بشدة) إذ ستُعتبر مصر شريكًا أساسيًا في الحل. وبالنسبة لإسرائيل، فإن هذا الحال يعني التخلص من عبء السيطرة المباشرة على غزة وما يرافقه من انتقادات دولية، كما سيضمن هذا الحل أن طرفًا إقليميًا قويًا (مثل مصر) سيتولّى منع التهديدات الأمنية من القطاع، هذا بالإضافة إلى تحسين صورتها عالميًا عبر خطوة يُقدَّم لها غطاء عربي. واخيراً، بالنسبة للدول العربية والمجتمع الدولي، فان هذا الحل يمثل إنهاء واحدة من أعقد بؤر التوتر في المنطقة، كما سيقلل من احتمالات الهجرة والنزوح الجماعي، بالإضافة إلى فتح الباب أمام مشروع إقليمي لإعادة إعمار غزة برعاية عربية – دولية.
لكن مع كل هذه الصورة التي قد تبدو سهلة المنال، يقف امام هذا السيناريو مجموعة من التحديات والعقبات اولها السيادة الفلسطينية، لان أي محاولة لفرض إدارة مصرية قد تُعتبر انتقاصًا من حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وثانيها اهمية الأعباء الاقتصادية، فتكلفة إعادة إعمار غزة تفوق قدرات مصر بمفردها، ما يجعلها بحاجة إلى دعم خليجي ودولي واسع، ناهيك عن المقاومة الشعبية والفصائلية، بحيث ترى الفصائل الفلسطينية الكبرى أن مثل هذا الحل يهمّشها أو ينهي مشروعها السياسي، والاعتبارات الأمنية لان إدارة غزة تعني لمصر الدخول في مواجهة مباشرة مع تحديات السلاح والأنفاق والتنظيمات المسلحة، واخيراً وأكثرها اهمية الموقف الإسرائيلي، فإسرائيل قد تُبدي قبولًا مشروطًا لكنها ستطالب بضمانات صارمة، ما قد يقيّد السيادة المصرية نفسها.
وبين الماضي واستشراف المستقبل، فإن إعادة غزة إلى مصر ليست فكرة مستحيلة، لكنها ليست سهلة كذلك. نجاحها مرهون بشروط واضحة أهمها إشراك الفلسطينيين في صياغة أي اتفاق لضمان شرعية شعبية داخلية، توفير تمويل دولي ضخم لإعادة الإعمار، وإلا تحوّلت غزة إلى عبء اقتصادي على القاهرة، وجود مظلّة عربية جماعية تضمن أن الأمر ليس صفقة ثنائية بل مشروع إقليمي متوافق عليه، واخيراً، آليات أمنية واضحة تمنع الصدام بين مصر والفصائل الفلسطينية أو بين مصر وإسرائيل.
ختاماً، قد تبدو عودة غزة إلى الإدارة المصرية حلًا يحنّ إلى الماضي، لكنه أيضًا يعبّر عن بحث عن مخرج واقعي من مأساة ممتدة. وفي عالم السياسة، غالبًا ما تُصاغ الحلول من رحم الأزمات. لكن يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستكون هذه العودة – إن حدثت – خطوة نحو تسوية شاملة تضمن الحقوق الفلسطينية وتؤمّن استقرار المنطقة، أم مجرّد تدوير للأزمة في ثوب جديد؟