العدوان الصهيوني على قطر: جرس إنذار للأمن العربي والإقليمي

هاني الهزايمة

32
لم يكن الاعتداء الصهيوني الأخير على قطر مجرد حادثة عابرة أو مناورة عسكرية يمكن إدراجها في خانة الاستفزازات التقليدية التي اعتاد عليها هذا الكيان منذ نشأته. بل هو عمل سافر، جبان، واستفزازي، يحمل في طياته دلالات خطيرة تتجاوز استهداف الدوحة وحدها، لتشكل رسالة وقحة إلى كل عاصمة عربية مفادها أن لا حصانة لأحد أمام التهور الإسرائيلي، مهما بلغت مكانته الإقليمية أو قوته الدولية أو شبكة تحالفاته الاستراتيجية.
العدوان على قطر، الدولة العضو في مجلس التعاون الخليجي والموقعة على معاهدة الدفاع الخليجي المشترك، لا يمثل فقط انتهاكًا لسيادتها وأمنها، بل هو تحدٍ مباشر للمنظومة الأمنية الخليجية برمتها. بلغة أوضح، ما أقدمت عليه إسرائيل هو اعتداء على المنظومة العربية والخليجية بأسرها، وليس على الدوحة فحسب.
منذ نهاية حرب أكتوبر عام 1973، لم نشهد عملاً عسكريًا إسرائيليًا بهذا الحجم والجرأة ضد دولة عربية مستقلة تتمتع بعلاقات متينة واستراتيجية مع الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. فالدولة التي استُهدفت هنا ليست أي دولة عربية أخرى يمكن لإسرائيل أن تستخف بردود أفعالها، وإنما دولة تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، وتعتبر أحد أبرز الحلفاء الاستراتيجيين لواشنطن.
ومع ذلك، لم يشفع هذا كله لقطر. لم تردع هذه الحقائق إسرائيل من ارتكاب عملها العدواني الجبان. بل بالعكس، بدا وكأن تل أبيب تعمدت توجيه صفعة مزدوجة: أولاً للدوحة التي لعبت الدور الأكثر فاعلية في جهود الوساطة الدولية منذ اندلاع العدوان على غزة في السابع من أكتوبر، وثانيًا للولايات المتحدة التي تجد نفسها في موقف حرج، إذ عجزت عن حماية أقرب حلفائها بعد إسرائيل.
لا يمكن قراءة الاعتداء الإسرائيلي على قطر بمعزل عن دورها الدبلوماسي البارز في محاولة وضع حد لآلة الحرب الصهيونية في غزة. فمنذ السابع من أكتوبر، كانت الدوحة المحرك الأساسي للجهود الدبلوماسية، بالتنسيق مع مصر والولايات المتحدة، في محاولة للوصول إلى وقف إطلاق نار أو تهدئة إنسانية.
إسرائيل، التي اعتادت على إفشال أي جهد يوقف نزيف الدم الفلسطيني، رأت في قطر خصمًا سياسيًا أكثر منه وسيطًا محايدًا. ولذلك جاء استهدافها بمثابة رسالة إرهاب دبلوماسي موجهة لكل دولة تفكر في كبح جماح التوسع الإسرائيلي أو الحد من طموحاته العدوانية.
هذا السلوك لا يفضح فقط الطبيعة الإجرامية للكيان الصهيوني، بل يكشف أيضًا عن مدى خوفه من أي جهد دبلوماسي قد ينتزع منه زمام المبادرة ويفرض عليه التزامات لا يرغب بها.
الخطر الحقيقي في هذا العدوان يكمن في أنه لا يمكن اعتباره حادثًا معزولًا. فإذا كان الاحتلال الإسرائيلي بقيادة الإرهابي بنيامين نتنياهو قد تجرأ على قطر، الدولة ذات السيادة التي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية وتتمتع بعلاقات وثيقة مع الغرب، فما الذي يمنعه من التجرؤ على دول عربية أخرى لا تملك نفس الحصانة السياسية أو الغطاء الاستراتيجي؟
هذا العدوان يجب أن يُفهم على أنه اختبار وقح لقدرة العالم العربي والمجتمع الدولي على الردع. فإذا مر مرور الكرام، فسوف تتجرأ إسرائيل على تكراره، وربما بشكل أكثر عنفًا، ما قد يدفع المنطقة إلى منزلقات مجهولة تهدد الأمن والاستقرار العالميين، لا الإقليميين فقط.
هنا تبرز مسؤولية المجتمع الدولي، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية، التي تجد نفسها أمام اختبار مصداقية لم تواجهه منذ عقود. فكيف يمكن لواشنطن أن تقنع العالم العربي بأنها شريك استراتيجي وحامٍ لأمن الخليج، في حين عجزت عن منع أو حتى إدانة اعتداء صارخ على أقرب حلفائها؟
إن الصمت أو التواطؤ الغربي إزاء هذا العدوان لا يعني سوى إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لمواصلة سياساتها المتهورة. وعليه، فإن أي تقاعس عن محاسبة الكيان الصهيوني سيُسجل كفضيحة أخلاقية وسياسية للمنظومة الدولية، التي ترفع شعار حماية السيادة ورفض العدوان بينما تتجاهل ما يجري أمام أعينها.
أما على المستوى العربي، فإن الاكتفاء ببيانات الإدانة والشجب لم يعد مقبولًا ولا مجديًا. لقد جُرِّبت هذه اللغة مرارًا، ولم تزد إسرائيل إلا صلفًا وتوحشًا. المطلوب اليوم هو العودة إلى أدوات الردع الفعّالة، وفي مقدمتها المقاطعة الاقتصادية والدبلوماسية، وإحياء الجهود لعزل هذا الكيان في المحافل الدولية، كما جرى مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
على الدول العربية أن تدرك أن المسألة لم تعد تخص قطر وحدها، بل تتعلق بأمن كل عاصمة عربية. فترك الدوحة تواجه مصيرها منفردة هو بمثابة توقيع شيك على بياض لإسرائيل لتفعل ما تشاء لاحقًا مع غيرها.
لقد بات واضحًا أن إسرائيل اليوم تمثل سرطانًا ينهش في جسد المنطقة، وتتصرف كدولة فوق القانون الدولي. فهي لا تعترف بسيادة أحد، ولا تحترم أي اتفاقيات، ولا تكترث بعلاقات التحالف أو الشراكة التي قد تربط هذا الطرف أو ذاك مع الولايات المتحدة أو الغرب.
إن استمرار هذا النهج العدواني سيقود حتمًا إلى صدام أوسع، وستدفع المنطقة بأسرها ثمنًا باهظًا إذا لم يتم كبح هذا الكيان المارق قبل فوات الأوان.
العدوان الصهيوني على قطر ليس مجرد حدث عسكري عابر، بل هو جرس إنذار مدوٍّ لكل العرب، بل ولكل القوى الدولية التي ما زالت تؤمن بأهمية الاستقرار في الشرق الأوسط. إنه تذكير بأن إسرائيل، في ظل قيادتها المتطرفة، قادرة على ارتكاب أي حماقة مهما كانت عواقبها.
من هنا، فإن المسؤولية التاريخية تقع على عاتق العرب أولًا، ثم المجتمع الدولي، لوضع حد لهذا الصلف وإجبار إسرائيل على احترام القانون الدولي. أما الصمت أو الاكتفاء بالإدانة، فلن يعني سوى تسريع عجلة الانزلاق نحو فوضى إقليمية لا تُحمد عقباها.
إن ما جرى في الدوحة يجب أن يكون نقطة تحول في الوعي العربي والدولي على السواء: إما أن نواجه هذا الكيان بما يستحق من ردع، أو نتركه يجر المنطقة إلى المجهول.
الرأي
قد يعجبك ايضا