خافق في المعالي… عبقرية النظر إلى الوراء الوطنية لا تعلق على الجدران
فلحة بريزات
عندما قرأـت خبر إلزام رفع “العلم” على واجهات المباني، توقفت ملياً. أخيراً، جاء من يُنظم “انتماءنا الوطني”.
القرار يفتح الباب أمام أسئلة عديدة: من ابتكر الفكرة؟ ما مبرراتها ؟ وهل يمكن حقاً أن يُقاسَ الانتماء الوطني بقرار إداري يَفرضُ على الأفراد رفع رايتهم؟
الانتماء، في جوهره، ليس صورة تثبت على جدار، ولا قماشا يرفف بأمر إداري ، بل هو سلوك وممارسة، تحفظ كرامة الوطن وتصون مقدراته.
كشف الجدل الذي أثاره قرار أمانة عمان بين مؤيد ومعارض، عن إشكالية في علاقة المواطن بصانعي القرار. فبينما يرى البعض فيه تعزيزاً للهوية الوطنية، يعده آخرون إجراءً شكلياً بعيداً عن جوهر قيم الانتماء.
في خمسينيات القرن الماضي، كتب الشاعر والسياسي الراحل (عبد المنعم الرفاعي) كلمات “خافق في المعالي” التي تحولت إلى نشيد يملأ القلوب قبل أن يعلو الحناجر، ليوقظ فينا شغف الانتماء، كان رفع العلم شرفاً يتسابق عليه الطلبة بصدق وعفوية، كان الانتماء فطرياً، نابعاً من القلب، بعيداً عن الإملاءات والشكليات.
نعم ..”الراية” رمز للسيادة والوحدة، تخفق في الأفئدة ، وهي أكبر من أن تختزل في مشهد بصري يُكرر. حين يُحوَّل الانتماء إلى بند إداري أو عبء مالي جديد، فإن الخطر لا يكمن في القرار بحد ذاته، بل في الرسالة التي يرسلها .
الرموز الوطنية لا يُعظم حضورها بالقيود، تصان بالوعي لا بالقرارات، تَعلى قيمتها في رمزيتها وندرتها، لا في تكرار مفرط يحولها إلى مشهد عابر.
فكيف تغيرت الدنيا ، وبات الانتماء يُشترى ويُباع؟
الأردنيون لم يحتاجوا إلى دليل مادي على شرعيتهم أو انتمائهم. إذ، أثبتت التجارب الوطنية، في الأزمات والمحن، أن الأردني يقف إلى جانب دولته بكل ما يملك. فالراية راسخة في ذاكرة البيوت والمدارس والساحات، حاضرة في الضمير الجمعي وليست بحاجة إلى فرض أو إلزام.
قرار أمانة عمان لم يلتفت إلى هذه المعاني العميقة، بل تعامل مع الوطنية بذكاء إداري جاف، ليضيف أعباء مالية على المواطنين ذوي الدخول المحدودة.
ما نحتاجه اليوم ليس “عبقرية النظر الى الوراء” ، بل مشروع وطني يعيد تنظيم “العقد الاجتماعي ” وتمتين البيت الداخلي من بوابة: العدل والمساءلة وصون الحريات وحماية الكرامة .
رحم الله البناة الأوائل الذين عززوا فينا قيم الانتماء بكلمات حُفرت في وجداننا جيلاً بعد جيل، لأنها كانت تنبع من القلب لا من ورقة قرار.
يا “أمنَا عمان” (الوطنية) لا تفرض بقانون بل تُِبنى بالثقة والعدل.