أبعد من احتلال غزة
أحمد حمد الحسبان
يبدو أن اليومين المقبلين سيكونان حاسمين فيما يخص مستقبل قطاع غزة. فالتقارير تتحدث عن حالة سباق مع الزمن تجريها دول الوساطة وأخرى مؤثرة في محاولات لكسب الوقت وتغيير مسار الأحداث في اتجاهات مختلفة عما خططت له حكومة التطرف في تل أبيب.
فالقرار المعلن ـ إسرائيليا ـ هو احتلال قطاع غزة، المحتل أصلا، والخاضع بشكل شبه كامل لسيطرة الجيش الإسرائيلي، الذي يمارس أعمال القتل والتجويع لسكان القطاع، ويفرض حصارا شاملا على مداخله ومخارجه، ويمارس سياسات القتل بشتى الوسائل بما فيها عمليات التجويع والقصف والقتل المتعمد ضاربا بالاحتجاجات الأممية عرض الحائط.
ما يعني أن مفهوم الاحتلال الذي اقترحه نتنياهو وأقره الكابينت، وحظي بمباركة غالبية حركات وأحزاب التطرف واسعة النفوذ في إسرائيل، مختلفا عن المعنى اللغوي الدارج، حيث يتعدى السيطرة العسكرية القائمة أصلا، ويدخل ملف القطاع ضمن متاهات أخرى كانت تشكل حلما لرموز التيار اليميني المتطرف وكابوسا لسكان القطاع والمتعاطفين معهم.
فالاحتلال بمفهومه المطروح يعني ارتفاعا في وتيرة الإبادة لسكان القطاع، وبدايات لمشروع تهجير داعب خيال الرئيس الأميركي ترامب برؤية القطاع خاليا من السكان جاهزا لتحويله إلى منتجع سياحي عالمي. والتقى مع طموحات نتنياهو بتفريغ القطاع من أهله وسكانه ومن ثم تطويره صناعيا واقتصاديا جاذبا للاستثمار العالمي. وعبر عن أمنيات رموز التطرف في الكنيست والحكومة الإسرائيلية بإطلاق عمليات توسيع» الدولة» وتحقيق الحلم التوراتي ليس فقط في قطاع غزة وإنما في الضفة الغربية ومناطق أخرى.
أما عناصر مشروع احتلال القطاع ـ كما أعلنتها وسائل إعلام تابعة لحكومة التطرف ـ فتتمثل بالقضاء على حركة حماس وعلى سلاح حركة حماس وعلى حكم حركة حماس. بمعنى أن المستهدف المعلن هو حركة حماس، وأن المطلوب هو رأس الحركة وسلاحها وإبعادها عن حكم القطاع. وهي عناوين وإن كانت متمسكة بها، إلا أنها تعتبرها مقدمات لمشروع أكبر بكثير مما هو معلن. بل ومقدمة لمشروع تهجير لم تتردد في الكشف عنه منذ زمن طويل، لكنه يواجه برفض عربي وتحفظ غربي واسع النطاق. وبتحفظات داخلية على مستوى الجيش الذي لا يرى أن الوقت مناسب لمثل هذا المشروع، ويتوقف قادته ومحللوه عند كم من الحقائق أبرزها أن اجتياح القطاع من جديد سيوقع خسائر فادحة في الجيش المنهك، الذي خسر الكثير من قياداته وأفراده ومعداته، ولم يعد بنفس المستوى من الجهوزية لمثل تلك المهمة الصعبة. وما يتوقع من مستوى مقاومة مضطرة للتعاطي مع التطورات من منطلق خيارات محدودة» حياة أو موت».
وعلى مستوى آخر يتوقف سياسيون وعسكريون عند كم من الحقائق المتعلقة بتغيرات المواقف السياسية العالمية، والتغيرات التي حدثت على سمعة إسرائيل الدولية. وسط أغلبية لا تعير لهذا البعد أي اهتمام، وترى أن التزود بالسلاح لا يشكل عقبة أمام انفتاح الولايات المتحدة ودول غربية. كما أن المواقف السياسية المعلنة لم يسبق أن تركت أثرا يذكر على ممارسات الاحتلال، التي تزداد ضراوة كلما ارتفعت وتيرة التحفظ الدولي عليها. فقد تعايشت حكومة الاحتلال مع مثل تلك التحفظات، وطوعتها لخدمة أغراضها، ووظفت وسائل إعلامها في الترويج لادعاءاتها، وقتلت الصحفيين وشهود الحقيقة، وتجاهلت ما هو جاد من تلك التحفظات، واحتمت بالولايات المتحدة لإبطال أي أثر لأي تحفظات أممية، وبالفيتو الأميركي لإسقاط أي مشروع قرار يستهدفها.
من هنا، يمكن القول أن مشروع احتلال غزة بالمفهوم الإسرائيلي الجديد ـ إن حدث ـ فسيكون مشروعا إسرائيليا أميركيا بالدرجة الأولى، وفي الوقت نفسه مشروعا غربيا وإلى حد ما عربيا بحكم أن المعلن منه هو استهداف حركة حماس التي قد توافق ـ مضطرة ـ في الساعات الأخيرة على تسوية تحقن دماء أبناء القطاع، دون التخلي عن الحد الأدنى من ثوابتها.
ما يدفع إلى هذه الفرضية ما تردد من معلومات بأن الحركة وافقت في جولة التفاوض الأخيرة على الكثير من المطالب الإسرائيلية من بينها الإفراج عن الأسرى، والتخلي عن الحكم لصالح السلطة الفلسطينية. لكنها توقفت عند مسألة السلاح، رافضة المطلب الإسرائيلي بتسليمه لها، والاستعاضة عن ذلك بعبارة « تجميد السلاح» أي التوقف عن استعماله. الأمر الذي رفضه الجانب الإسرائيلي قبل أن يلجأ إلى التلويح باحتلال القطاع، وبالتالي فتح بوابات الاجتهاد أمام خيارات صعبة أقلها اشتراط حكم القطاع من طرف ثالث لا علاقة لحماس ولا للسلطة الفلسطينية به, وأبعدها فتح بوابات التهجير أمام الراغبين من سكان القطاع أولا، وليس أخيرا. ومن ثم تنفيذ خريطة جديدة للشرق الأوسط، يمتد إلى سورية والعراق ولبنان، كمشروع يعتقد أن لقاء نتنياهو وترامب الأخير في واشنطن قد رسم ملامحه ليبدأ العمل على فرضه لاحقا. وهو المشروع الذي ترفضه العديد من الدول العربية وغيرها، وتستعد دول ذات نفوذ لإسقاطه ما لم يكن هناك اعتراف بدولة فلسطينية وإجراءات لإقامتها كجزء من الحل الشامل.
من هنا يبدو أن فكرة احتلال القطاع قد لا تكون فكرة عملية، وقد لا تشكل حلا ينهي الأزمة ويطوي الملف، وإنما تزيد من تعقيدات المشهد. فقد يستطيع طرف أن يفرض حلا بالقوة لكنه لا يستطيع إدامة ذلك الحل. ويبقى الأمل قائما أن تحمل الأيام القليلة المقبلة انفراجة توجه الأحداث في مسار مختلف؟
(الغد)