إعادة تصميم الخدمات العامة
د. علا خالد الزواتي
امتد اهتمام الحكومات من تقديمها للخدمات تبعًا لما ترى أن المجتمع والمواطنين يحتاجون إليها، لتنتقل إلى تقديمها لخدمات يطلبها المجتمع أو يتوقع تقديمها، تحقيقاً لرضا متعامليها ومواطنيها وتحسين تجربتهم.
وفي هذا السياق، برزت دعوات ومبادئ مختلفة لتطوير الخدمات، وخاصة مع التوجه إلى رقمنتها، وفي ظل الجهود الحكومية المتواصلة لتحديث القطاع العام في الأردن، كان المكون الأول في خارطة تحديث القطاع العام هو الخدمات، يليه المكون التالي وهو الإجراءات والرقمنة، الأمر الذي يشير إلى أن الخدمات ورقمنتها أساس وبداية لكل تحديث.
وللبدء بمراجعة حقيقية للخدمات، أصبح من الضروري التوقف عند سؤال محوري: “لمن تقدم الخدمات العامة”؟، وهل يشعر الناس حقًا أن هذه الخدمات مصممة لتناسب ظروفهم، وتحقق تطلعاتهم؟.
الخدمات هي نقاط التماس بين الجهات الحكومية والمجتمع وبضمان جودتها واستجابتها وعدالة تقديمها وتحسينها المستمر، تتمكن الحكومة من الامتثال للقوانين والسياسات، وتحسين جودة الحياة، ودعم النمو الاقتصادي ومنعته، والأهم زيادة الثقة مع المواطن.
قد يكون بديهياً أن تبدأ الخدمات من معرفة متلقيها او طالبيها واحتياجاتهم، وقد تعتقد بعض الجهات الحكومية أنها تعلم ذلك، ولكنه في واقع الأمر، غالبًا ما تكون المعرفة غير مكتملة أو تركز على المتعامل كرقم للخدمة أو كفرد أو شخص اعتباري، دون الغوص في احتياجاته الحقيقية كـ”إنسان” له ظروف اجتماعية واقتصادية متنوعة سواء من يطلبها مباشرة مثل إصدار الهوية، أو يحصل عليها كنفع عام كالشوارع أو المياه أو غيره.
ماذا يعني التحول من مفهوم تقديم الخدمات من التركيز على المتعامل إلى التركيز على الإنسان؟.
لقد تطورت توجهات تطوير الخدمات بالانتقال من المفهوم التقليدي للخدمات من المتعامل والتركيز على المتعامل (Customer – centric services) إلى خدمات تركز على الإنسان (Human-Centric Services)، حيث يركز المفهوم التقليدي الأول على المواطن كرقم أو كـ”معاملة”، وعلى هذا الأساس تُصمم الإجراءات والنماذج وتحول تلك الإجراءات رقمياً، أما في النهج الذي يركز على الإنسان، فالفرد ينظر إليه ككائن متكامل، له حقوق وظروف اجتماعية واقتصادية ونفسية متنوعة، ويجب أن تكون الخدمة بشكل رئيسي متكاملة، ومبسطة، ودامجة لاحتياجاته من جهة، مع ضمان الوصول العادل إليها وشموليتها لجميع الأفراد بما فيهم من يواجهون صعوبات أو يعيشون في مناطق نائية أو يواجهون ضعف المهارات الرقمية، أو الإعاقة، أو الموقع الجغرافي البعيد.
وفي هذا السياق، تبنّت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) في 2024 مبادئ هامة لتطوير الخدمات من خلال تبني نهج خدمات محورها الإنسان:
وفي هذا السياق، لا تقوم رحلة تطوير الخدمات فقط على تحويلها رقمياً، بل هي أداة من الأدوات التي تستخدم لتقديم وتصميم لتقديم خدمة إنسانية متكاملة.
تبدأ الرحلة بفهم الإنسان، وتنتهي عند رضاه وراحته. فإعادة تصميم الخدمات لا تعني فقط تحسين الواجهة الرقمية أو تقليل عدد النماذج، بل تعني إعادة التفكير في لمن ولماذا وكيف ومتى تقدم الخدمة ومن يقدَّمها؟، فالخدمات تبدأ منذ لحظة الميلاد ولا تنتهي إلا برحلة الحياة كاملة.
تخيّلوا تجربة مواطن يولد في أحد مستشفيات المملكة، فتسجل ولادته تلقائيًا في دائرة الأحوال المدنية، ويضاف اسمه إلى دفتر العائلة دون حاجة لزيارة الدوائر الحكومية، تفعل له تغطية التأمين الصحي تلقائيا، وتصل أسرته رسالة نصية تخبرهم بذلك، وترفق مواعيد التطعيمات القادمة أو إجراءات الدعم الاجتماعي الممكنة، مع استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي دون المساس بالخصوصية.
هذه ليست خيالًا، بل تصور واقعي لما يجب أن تكون عليه الخدمات العامة: مترابطة، استباقية، مبنية حول الإنسان لا حول المؤسسة وهو ما طبقته دول أخرى ونجحت به.
إن إعادة التفكير في تصميم الخدمات العامة يتطلب، وتجعل من حياته أكثر كرامة وسلاسة. الأمر الذي يستدعي منا أن ننظر إليها من منظور حياة الإنسان لا من منظور هيكل المؤسسة.
إن التحول إلى نموذج “خدمات تركز على الإنسان” هو تحول في العقلية الحكومية قبل أن يكون تحولًا تقنيًا. هو دعوة للنظر إلى الخدمات لا كمجرد “معاملات”، بل بإعادة تصميمها لتبدأ من الإنسان وتنتهي إليه، فنحن في الأردن نمتلك المقومات والإرادة لتحسين الخدمات والبنية التحتية الرقمية، والنضج التشريعي، والكوادر البشرية وما نحتاجه الآن هو تسريع التنفيذ، بقيادة تستمع، وتبتكر، وتضع الإنسان في قلب كل خدمة.
فلنفتح حوارًا وطنيًا جادًا حول ما تعنيه إعادة تصميم الخدمات، وكيف يمكن للسياسات والإجراءات أن تعيد وضع الإنسان في قلب الخدمة، لا أن يكون أمراً مسلماً به رضي أم أبى.