امانة عمان: عبء المديونية وثقل الادارة
أمانة عمان: عبء المديونية وثقل الادارة
د.رعد محمود التل
تواجه أمانة عمّان الكبرى في السنوات الأخيرة ضغوطًا مالية وإدارية متراكمة، جعلت قدرتها على تقديم الخدمات بكفاءة موضع نقاش عام. المديونية التي تجاوزت مليار دينار أصبحت مؤشرًا واضحًا على خلل هيكلي، لا يقتصر على التمويل فقط، بل يمتد إلى أسلوب الإدارة، وتوزيع الصلاحيات، وحوكمة العمل التنموي المحلي. ومع اتساع عمّان جغرافيًا وديموغرافيًا، يبرز سؤال جوهري: هل ما تزال إدارة مركزية واحدة قادرة على استيعاب مدينة بهذا الحجم والتنوع والاحتياجات؟
أول ملامح التحدي هو الوضع المالي. فالأرقام تشير إلى أن مديونية الأمانة بلغت نحو مليار و37 مليون دينار، وهو مستوى غير مسبوق يعكس حجم الالتزامات المالية المترتبة على الأمانة نتيجة مشاريع البنية التحتية، والاستملاكات، وكلفة الخدمات التشغيلية المتزايدة. هذا يعني أن جانبًا مهمًا من موازنة الأمانة مرتبط بخدمة الدين، سواء فوائد أو التزامات مالية. في المقابل، تتراجع قدرة الأمانة على التوسع في الخدمات أو تنفيذ مشاريع كبرى دون اللجوء إلى مزيد من الاقتراض أو الشراكات. هذا الوضع يضع عمّان على مسار مالي غير مستدام، ما لم تتغير بنية الإدارة وآليات اتخاذ القرار.
فبحسب التصريحات الرسمية، فإن نحو 75% من مديونية أمانة عمّان مرتبطة باستملاكات للنفع العام تحولت إلى أصول تقدر قيمتها بأكثر من 2.4 مليار دينار. هذه الالتزامات تراكمت منذ عام 2010 نتيجة توسعة الشوارع وإنشاء الحدائق ومشاريع خدمية، وارتفعت كلفتها بفعل صعود أسعار الأراضي والأحكام القضائية اللاحقة. ورغم ارتفاع إيرادات الأمانة العام الماضي إلى 317 مليون دينار، إلا أن الكلف التشغيلية والرواتب، التي تصل وحدها إلى نحو 190 مليون دينار سنويًا، تستنزف الجزء الأكبر من الموارد، ما يضطر الأمانة للاعتماد على الاقتراض لتمويل المشاريع وتحسين جودة الخدمات.
أما التحدي الثاني فهو الحجم الإداري الكبير. فعمّان اليوم ليست مدينة صغيرة، بل وحدة حضرية تضم ما يقارب خمسة ملايين نسمة، وتمتد على مساحة واسعة، وتضم تباينات اجتماعية ومكانية واضحة. ويصعب منطقيًا أن يستطيع أمين مدينة واحد، مع طاقم مركزي محدود، إدارة تفاصيل تتعلق بالنظافة، والتنظيم، والنقل، والإنارة، والمتابعة الميدانية، والرقابة، والنمو العمراني في عشرات المناطق المختلفة. هذا الحجم وحده كافٍ لطرح تساؤل حول جدوى استمرار النموذج الإداري المركزي التقليدي.
من هنا تبرز أهمية التفكير في تقسيم أمانة عمّان إلى أقاليم إدارية مستقلة نسبيًا. الفكرة ليست جديدة عالميًا، بل تمثل ممارسة متقدمة في إدارة المدن الكبرى. إسطنبول مثال واضح، إذ تتكون من 39 بلدية فرعية تمتلك صلاحيات واسعة وقريبة من السكان، بينما تتولى البلدية الكبرى التخطيط والنقل والمشاريع الكبرى. ولندن مقسمة إلى 32 منطقة يعمل كل منها كوحدة إدارية لها مجلس محلي، فيما تتولى الحكومة البلدية المركزية السياسة العامة. أما باريس فتتبع نموذج الدوائر، حيث تُدار شؤون الحياة اليومية على مستوى محلي، بينما تركز بلدية باريس على البنية التحتية الكبرى.
هذه النماذج تؤكد أن المدن الكبيرة تحتاج إلى طبقتين من الإدارة: طبقة محلية تنفيذية تتعامل مع التفاصيل اليومية، وطبقة مركزية استراتيجية تضع الخطط الكبرى وتنسق السياسات. وفي حالة عمّان، يمكن أن يكون الحل عبر تقسيمها إلى أربعة أو خمسة أقاليم: شمال، جنوب، شرق، غرب، ووسط. لكل إقليم إدارة تنفيذية كاملة الصلاحية في الخدمات، فيما تحتفظ الأمانة المركزية بدورها الاستراتيجي في التخطيط العمراني، والنقل العام، والمشاريع الكبرى، والشراكات.
هذا النموذج يقدم أربع فوائد رئيسية. الأولى تحسين جودة الخدمات لأن الإدارة تصبح قريبة من السكان ومطلعة على احتياجات كل منطقة. الثانية تخفيف العبء عن أمين عمّان الذي يتحول دوره من التفاصيل اليومية إلى الرؤية الحضرية الأشمل. الثالثة رفع الكفاءة المالية لأن كل إقليم سيتابع تحصيله ويساهم في ضبط المديونية ويحدد احتياجاته بدقة أكبر. أما الرابعة فهي رفع مستوى المحاسبة والشفافية عبر ربط الميزانيات والنتائج بكل إقليم.
وفي ملف المديونية، يمكن للأقاليم الإدارية أن ترفع مستوى تحصيل الإيرادات جزئيًا، لأن القرب من المواطن يسهل متابعة المتأخرات. كما يمكنها تحسين كفاءة الإنفاق لأن أولويات كل منطقة تختلف، ما يقلل من هدر الموارد. ويساعد الهيكل الجديد كذلك في توجيه الاستثمارات نحو مشاريع ذات أثر مباشر، بدلا من المشاريع العامة التي قد لا تعود بالفائدة على كل أنحاء المدينة بالتساوي. غير أن هذا التوجه يحتاج إلى إطار قانوني يسمح بنقل الصلاحيات، ونظام مالي يحدد مسؤوليات كل إقليم، فضلًا عن نظام تقييم يربط الأداء بالموازنات، لضمان عدم خلق فروقات تنموية بين الأقاليم.
تقف عمّان اليوم على مفترق طرق. إما الاستمرار في نموذج مركزي أثبت محدوديته في ظل تزايد الأعباء المالية والإدارية، أو الانتقال إلى نموذج حديث في إدارة المدن الكبرى، يقوم على توزيع الصلاحيات، وتقوية الإدارة المحلية، وتحسين الحوكمة، وضبط المديونية، وتحقيق كفاءة أعلى في إدارة موارد المدينة. إعادة هيكلة الأمانة ليست خيارًا ثانويًا، بل خطوة ضرورية لضمان استدامة مالية، وخدمات أفضل، وتخطيط حضري متوازن، واستجابة أسرع لمدينة تتغير بسرعة.