من رواندا إلى سوريا
من رواندا إلى سوريا
عبدالرحمن شلقم
هل يمكن لقائد تنظيم مسلح أن يترأس دولة بعدما كان يوصف بـ«الإرهابي»، وخاضمعاركَ سقط فيها قتلى في داخل بلاده وخارجها، وصدرت ضده مذكرات اعتقال،ورُصدت لذلك مكافآت مالية؟ طُرح هذا السؤال بعدما تولى أحمد الشرع رئاسةالجمهورية العربية السورية. هناك من يصر إلى اليوم على مناداة رئيس سوريا الانتقاليباسمه الحركي «أبو محمد الجولاني»، الذي كان يحمله قبل أن يعود إلى اسمه المدنيأحمد الشرع. الماضي – والحاضر أيضاً – يقدم لنا زعامات عبرت المسارب ذاتها التي مرَّبها الرئيس السوري أحمد الشرع. من بين أبرز هؤلاء رئيس جمهورية رواندا بولكاغامي. هاجر من بلاده وهو طفل صغير إلى أوغندا، هروباً من القمع الذي تعرضت لهقبيلته التوتسي. ترعرع في أوغندا، وتعلم في مدارسها. انضم إلى الجيش الأوغندي،وقاتل مع حركة يوري موسيفيني ضد الرئيس عيدي أمين. أسس مع رفاقه من قبيلةالتوتسي الروانديين اللاجئين في أوغندا «الجبهة الرواندية» لخوض حرب ضد نظامالرئيس جافينال هباريمانا. في سنة 1994 شنَّ الهوتو حملة إبادة ضد قبيلة التوتسيبتهمة أنهم وراء إسقاط طائرة الرئيس. هاجمت «الجبهة الرواندية» العاصمة، وهزمتجيش النظام، وتوقفت حملة الإبادة التي أودت بحياة 800 ألف شخص.
وصفته كل من فرنسا وبلجيكا بـ«الإرهابي». في سنة 2000 انتخب البرلمان بولكاغامي رئيساً للبلاد. رُفعت ضده قضية أمام المحاكم الرواندية، ووُجهت له تهمةالتخطيط لقتل رئيس الجمهورية السابق، جافينال هباريمانا، وبرّأته المحكمة منالتهمة، وأكدت أن عصابة من الهوتو كانت وراء إسقاط طائرة الرئيس السابق، لعرقلةعملية التفاهم السلمي بين الأطراف المتصارعة. من رواندا بول كاغامي إلى سورياأحمد الشرع.
أحمد الشرع وُلد في شهر أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1982 في مدينة الرياضالسعودية، لعائلة سورية مسلمة تتحدر من هضبة الجولان. والده حسين الشرع كاتبومفكر سوري معروف.
أحمد الشرع التحق بتنظيم «القاعدة» في العراق، وشارك في مقاومة القواتالأميركية، اعتقلته القوات الأميركية في العراق لمدة ثلاث سنوات. بعد اندلاع الثورةالسورية سنة 2011 ضد نظام بشار الأسد، عاد أحمد الشرع إلى سوريا، وأسس «جبهةالنصرة»، وشارك في ثورة الشعب السوري ضد النظام الديكتاتوري. سيطر على مدينةإدلب، واندمج مع القوى الثائرة، وشارك في تأسيس «هيئة تحرير الشام». وضعتوزارة الخارجية الأميركية الشرع على قائمة الإرهاب، ورصدت مكافأة مالية بعشرةملايين دولار لمن يقدم معلومات تساعد في القبض عليه.
في سنة 2024 قاد هجوماً كاسحاً على قوات بشار الأسد، ونجح في إسقاطه وهروبه إلىروسيا. في يناير (كانون الثاني) 2025 عُين رئيساً للجمهورية العربية السورية.
هذه مشتركات تأسيسية عامة بين القائدين بول كاغامي في رواندا التي تقع في منطقةالبحيرات الأفريقية، وبين أحمد الشرع في سوريا العربية التي تقع في آسيا على البحرالأبيض المتوسط. مسافة طويلة بين البلدين، واختلافات في التكوين الاجتماعي، وحتىالجغرافي. المشترك بين البلدين كان حجم الظلم والإبادة التي تعرض لها شعباهما. فيرواندا قُتل 800 ألف شخص في حرب أهلية عرقية رهيبة، وفرَّ مئات الآلاف من النساءوالأطفال إلى البلدان المجاورة، وعانى من بقي في البلاد ولم يتمكن من الهروب، منالفقر والمرض والرعب. في سوريا قتل نظام الأسدين بشار ووالده حافظ مئات الآلافمن المدنيين؛ من مذبحة حماة التي قام بها الأب حافظ، إلى الإبادة الجماعية التينفذها الابن بشار بعد تفجّر ثورة الشعب السوري ضد العنف الديكتاتوري.
الرئيس الرواندي بول كاغامي، الذي اعتبره البعض إرهابياً، هو من جعل دولة رواندانموذجاً أفريقياً للسلم الاجتماعي والاستقرار والأمن والتقدم. بدأ كاغامي بتكريسالمصالحة الاجتماعية، من خلال دستور جديد يجرم العرقية، ويمنع استعمال الأسماءوالألقاب القبلية، ويؤكد على المساواة المطلقة بين جميع أفراد الشعب. وضع برنامجاًمتحركاً للتنمية الاقتصادية المستدامة، التي تشمل جميع مناطق البلد، وشهدت البلادقفزة تنموية هائلة. تضاعف دخل الفرد ثلاثين مرة في سنوات قليلة، وحققت البلادنسبة تنمية وصلت إلى 9 في المائة، ونهض التعليم والخدمات الصحية. في رواندااليوم يُمنع استعمال البلاستيك منعاً باتاً. الأحزاب تعمل بحرية في داخل البرلمانوخارجه. الرئيس يلتقي دورياً بقادتها، ويناقش معهم كل القضايا التي تهم المواطنين.
سنة 2009 زرت رواندا. بينما أنا أتناول وجبة الفطور في العاصمة كيغالي وبيديمسبحة، تقدم نحوي رجل ستيني ومدَّ يده مصافحاً، وسألني: هل السيد مسلم؟ قلتُ:نعم. ودعوته إلى الجلوس. قال: لي طلب منك، هل ممكن أن تهدي إليّ المسبحة؟أجبته مبتسماً: بكل سرور. قال: في العهد السابق كنا نحن المسلمين نخاف من إبرازهويتنا الدينية، واليوم بحمد الله لنا كل الحرية. وأضاف: أنا من الهوتو، والتوتسي قتلواكل عائلتي. أنا الآن متزوج من سيدة منهم، ولي أطفال.
نظيره السوري الرئيس أحمد الشرع، برغم الانهيار شبه الكامل الذي حلَّ بالبلاد،والتنوع الاجتماعي، وانتشار السلاح، وبقايا النظام المنهار… باشر في تأسيس الدولةالجديدة ومأسستها، ونجح في إعادة سوريا إلى المجتمع الدولي، ورفع العقوباتالدولية، وباشر في ترتيب عودة الملايين من المهاجرين. النضال السياسي والمسلحمعمل يصنع القادة الحكماء، القادرين على تأسيس دول موحدة ومتقدمة بعد انهيارها. صفة «الإرهاب» يطلقها الأعداء على من يهب حياته لإنقاذ وطنه، بقوة الإرادة وحكمةالقيادة. هذه قصة دولتين ورئيسين.الشرق الأوسط