“الابتزاز الإلكتروني”.. جرائم صامتة تفضحها الشكاوى

71

كشف تحقيق أجرته «الرأي» عن وجود حالات لابتزاز إلكتروني في الأردن بقصد الاستغلال المالي، ومع تصاعد الخطر تكون هذه الجرائم واحدة من أبرز التحديات الرقمية التي تواجه الأفراد والمؤسسات، مهددة السمعة والأمان النفسي والاجتماعي وحتى الاستقرار المالي. وبين التحقيق قصص ضحايا وقعوا في شباك المبتزين، والجهود الأمنية والقانونية المبذولة للتصدي لهذه الجريمة، تتكشف صورة أوسع لواقع بات يتطلب وعيا مجتمعيا وإجراءات وقائية صارمة.
لم يعد الابتزاز الإلكتروني في الأردن مجرد قصص متفرقة، بل واقعا يطرق أبواب الأفراد والمؤسسات على حد سواء، ويترك خلفه آثارا نفسية واجتماعية واقتصادية، من ضحايا شبكات التواصل، إلى أصحاب الشركات والأكاديميين، تكشف التجارب الحية حجم الخطر، وتوضح الجهود التي تبذلها وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية والشركاء لمواجهته.

 

قصة ابتزاز بآلاف الدولارات
بدأت القصة مع الفتاة الأردنية «ن.أ» على تطبيق «إنستغرام» مع حساب يتخذ من الدين ستارا لعملياته الاحتيالية، ويوهم متابعيه بعمله الرقيات الشرعية، الأمر الذي أثار فضولها خاصة وأنها كانت تعاني حينها من مشكلات، ظنا منها أن «علاجها» يكمن في التواصل مع الحساب، وعندما دخلته وصلها رابط إلكتروني، اعتقدت في بادئ الأمر أنه يحتوي على أدعية، لكن النتيجة كانت مغايرة تماما، إذ تمكن شخص ما من اختراق هاتفها والاطلاع على بياناتها كافة، وأكثر من ذلك وصوله إلى الكاميرا الأمامية والتقاط صور خاصة للضحية، دون علمها.
وما هي إلا أيام ليطالبها الشخص المخترق بدفع مبلغ 1000 دولار مقابل عدم نشر صورها أو إرسالها لعائلتها ومعارفها، إلا أن «ن.أ» لم ترضخ له ولمطالبه، لتتجه في ساعتها إلى وحدة الجرائم الإلكترونية بدعم من شقيقتها المحامية، وتقدم شكوى رسمية بحقه، وبفضل التدخل الفوري، تمكنت الوحدة من حذف الصور ومنع تسريبها، لينتهي الابتزاز من دون دفع فلس واحد.

 

صفحة وهمية تطال الشركات
وفي تفاصيل قصة أخرى، وجد محمود أبو عوض وهو صاحب شركة مشهورة نفسه في مواجهة صفحة وهمية تحمل اسمه واسم شركته على «فيسبوك»، لكنها مليئة بمحتوى مسيء ومخل بالآداب، قبل أن يبدأ المبتز مطالبته بمبلغ 5000 دولار مقابل حذف الصفحة، بالتزامن مع تواصله ومعارف الأخير، بغرض التشهير به وتشويه سمعته من خلال إرساله لصور لا أخلاقية من خلال تقنية الذكاء الاصطناعي تخص الضحية.
وعند تدخل وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية، تبين أنها بإدارة شخص يتواجد في المغرب، حيث جرى تحديد هويته، وإغلاق الصفحة المسيئة، ومنع أفعال كان من الممكن أن تضر بصاحب الشركة على الصعيدين الشخصي والعملي.

 

الزعبي: “كلنا معرضون”
روت الأكاديمية الدكتورة سلافة فاروق الزعبي تجربتها الشخصية مع الابتزاز الإلكتروني وتعرضها لحادثة كان الطرف الآخر فيها إحدى طالباتها، حيث أنشأت الأخيرة حسابا على مواقع التواصل الاجتماعي ووضعت اسم وصورة مدرستها عليه بهدف الإساءة لها وتشويه سمعتها، ما يثبت أن لا أحد بمنأى عن الوقوع بمثل هذه القضايا.
وأضافت الزعبي لـ«الرأي» أن وحدة الجرائم الإلكترونية تعاملت بحرفية عالية، بعد تقدمها بشكوى رسمية، إذ تمكنت كوادرهم من استدراج صاحبة الحساب المزيف وكشف هويتها على الرغم من تعاملها بحرفية تمثلت بعدم فتحها للحساب لأوقات طويلة، لكي لا يكتشف أمرها، وذلك قبل أن يقول القضاء الأردني كلمته ويوقع بحقها العقوبة القانونية المستحقة.
وفي حادثة أخرى، للزعبي تقول إن هاتفها الشخصي تعرض للاختراق، وبدأ شخص مجهول بطلب المال من جميع الأرقام المحفوظة لديها بعد التواصل معهم باسمها، إلا أنها تنبهت سريعًا ونشرت على جميع مواقع التواصل الاجتماعي تحذيرًا يؤكد اختراق هاتفها، وذلك قبل تقدمها بشكوى جديدة لدى وحدة الجرائم الإلكترونية، الذين عملوا على استرجاع حساباتها. ولحسن الحظ لم يتمكن المحتال من الإيقاع سوى بضحية واحدة أرسلت له المال ظنا منها أن الزعبي هي صاحبة الطلب، وانتهت القضية حينها بأقل الخسائر وفق تعبيرها. ونصحت الزعبي في ختام حديثها من يتعرضون للابتزاز الإلكتروني بأي شكل، بالتوجه فورا لوحدة الجرائم الإلكترونية وتقديم بلاغ رسمي في الحادثة، بلا خجل أو خوف، ودون التفكير بكيفية نظرة المجتمع له.

سرية وحزم وتقنيات متقدمة
أكد رئيس وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية المقدم محمود المغايرة أن الابتزاز عبر الإنترنت أصبح من أبرز الجرائم المستجدة في المجتمع، معتمدا على تهديد الضحايا بصور أو معلومات أو مقاطع مصورة. وأوضح أن القانون الأردني رقم 17 لسنة 2023 عالج هذه الجرائم بصرامة، حيث نصت المادة (18/أ) على الحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة لاتقل عن 3000 ولا تزيد على 6000 دينار كل من ابتز او هدد شخصا اخر لحمله على القيام بفعل أو الامتناع عنه أو للحصول على اي منفعة جاء ذلك من خلال استخدام نظام المعلومات او الشبكة المعلوماتية او موقع الكتروني ومنصة تواصل اجتماعي أو بأي وسيلة تقنية معلومات، فيما قد تصل العقوبة إلى الأشغال الشاقة المؤقتة وغرامة لاتقل عن 5000 دينار ولا تزيدعلى 10 آلاف دينار إذا كان التهديد بارتكاب جريمة أو باسناد أمور خادشة للشرف أو الاعتبار وكان ذلك مصحوبا بطلب صريح أو ضمني للقيام بعمل أو الامتناع عنه.
وأشار إلى أن جميع فئات المجتمع عرضة لهذه الجريمة ولكن الفتيات بشكل أكبر، بسبب طبيعة المجتمع الشرقي الذي تحكمه العادات والتقاليد، ما يدفع بعضهن للاستجابة لطلبات المبتز خوفا من الفضيحة، مشددا على أن المبتز لايتوقف بل يستمر بطلب المزيد من الأموال أو الصور إلا إذا تقدمت الضحية بشكوى رسمية.
وتابع أنه حين التقدم بشكوى رسمية، تتعامل الوحدة معها بسرية تامة، كونها تضم كوادر بشرية مؤهلة ومن بينهم محققات من عنصر الإناث لمنح الضحايا الراحة الكاملة اثناء التحقيق، مشيرا إلى أن إجراءات التحقيق لاتقتصر على ضبط المبتز فقط، بل تشمل أيضا ضبط مادة الابتزاز والأدوات المستخدمة في ارتكاب الجريمة، حيث يتم إدخال الأجهزة المضبوطة إلى مختبر الأدلة الرقمية لفحصها فنيا واستخراج الأدلة الرقمية منها، ليتم تزويد المحكمة بتقارير فنية موثقة تثبت وقوع الجريمة، كم يتم تحويل كافة الأوراق التحقيقية مع المبتز الإلكتروني إلى المحكمة المختصة لاستكمال الإجراءات القانونية بحقه.
وأوضح المغايرة أن اعداد الشكاوى المقدمة للوحدة والمتعلقة بجرائم الابتزاز الإلكتروني بلغت في عام 2024 (1125) شكوى، فيما سجل في الربع الأول من العام الحالي 2025 قرابة 400 شكوى، مبينا أن السنوات الاخيرة شهدت انخفاضا ملحوظا في أعداد الشكاوى، ويعود ذلك إلى ارتفاع مستوى الوعي الرقمي بين مستخدمي الإنترنت.
وفيما يخص الاحتيال المالي الالكتروني، أكد المغايرة أنه بات يشكل أحد أبرز التحديات الأمنية في ظل التطور التكنولوجي المتسارع، مؤكدا اعتماده على تقنية المعلومات، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمحافظ الإلكترونية، إضافة إلى الحسابات البنكية الإلكترونية. وبين أن أبرز أساليب الاحتيال المالي الإلكتروني تتمثل في تصيد الضحية عبر إرسال روابط وهمية أو رسائل بريدية تزعم الفوز بجوائز أو الحصول على وظائف أو قروض بلا فوائد، والانتحال سواء بانتحال صفة البنوك، والشركات المصرفية عبر مواقع إلكترونية مزيفة شبيهة بالمواقع الحقيقية، أو بانتحال صفة شخصيات عامة ومشهورة بحجة تقديم مساعدات مالية، أيضا احتيال الطرود الوهمية عبر رسائل تتنتحل صفة شركات البريد توهم الضحية بضرورة دفع رسوم لاستلام طرد أو الإفصاح عن رموز مصرفية سرية.
وحذر من خطورة سرقة حسابات واتساب، موضحا أن المحتالين أحيانا يقومون بانتحال شخصية الأصدقاء أو الأقارب لإيهام الضحية بأن الحساب الذي يتواصل معها هو لحساب موثوق، كما لفت إلى أن العملات المشفرة ومنصات التداول عبر الإنترنت أصبحت أيضا وسيلة استغلال جديدة للمحتالين، فضلا عن استخدامهم أداة الذكاء الاصطناعي من خلال تقنية (Deepfake) التي تسمح بإنشاء فيديوهات لشخصيات مشهورة لترويج مواقع احتيالية أو خداع المواطنين عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وتضم الوحدة كوادر مدربة وفق المغايرة الذي أكد عملها على تتبع الحسابات وتعقب الأدلة الرقمية، بالتعاون مع البنوك المحلية، وبالتنسيق مع منصات التداول العالمية مثل (بينانس) لتتبع الأموال ومعرفة هوية أصحاب المحافظ الإلكترونية، علاوة على وجود تعاون مع منصة الشرطة العربية والدولية «الإنتربول». وكشف أن عام 2024 شهد تسجيل 7421 شكوى احتيال مالي إلكتروني بنسبة (29.9%) من إجمالي القضايا، فيما استقبلت الوحدة حتى الربع الأول من عام 2025 (2698) شكوى بنسبة (27%) من مجموع الشكاوى المقدمة إلى وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية.
الأثر النفسي.. “الوقاية بالوعي”
يرى أستاذ الإرشاد النفسي والتربوي الدكتور عادل طنوس، أن الابتزاز الإلكتروني يترك آثارا نفسية واجتماعية عميقة، قد تصل إلى القلق والاكتئاب والانطواء. وأكد أن الإبلاغ المبكر عن أي محاولة ابتزاز يخفف من حدة الضرر، داعيا الأسر إلى تعزيز ثقافة الوعي لدى الأبناء، حتى لا يقعوا فريسة الخوف أو التردد في طلب المساعدة.

 

الإطار القانوني.. حماية صارمة
أما المحامي والمستشار القانوني الدكتور محمد نواف الفواعرة، فيوضح أن القانون يفرق بين حالات الابتزاز، فإذا وقع عبر شبكة المعلومات عُد جنحة يعاقب عليها بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وغرامة من 3000 إلى 6000 دينار، أما إذا تعلق الأمر بالاعتبار أو الشرف، فقد تصل العقوبة إلى السجن 20 عاما.
وأشار إلى عدم تفريق المشرع في العقوبة بناءً على سن الضحية في جرائم الابتزاز، إلا أن القاضي له صلاحية التدرج في العقوبة وفقًا لخطورة الفعل، والضرر المتحقق، وسن المجني عليه، بما قد يضمن حماية حقوق الأحداث وسلامتهم عند الاقتضاء.
وأكد أن البيانات الشخصية للمشتكي مثل الاسم هي فقط ما يحال إلى القضاء، بينما بقية البيانات الشخصية محمية وسرية، وأن مرحلة التحقيق الابتدائي في قضايا الابتزاز الإلكتروني تُعد مرحلة سرية بالكامل، ولا يمكن لأي شخص الاطلاع على بيانات الشاهد، بما في ذلك الخصوم أو المتهم أو حتى محامي المشتكى عليه، أثناء سماع الشهادات، مشيرا إلى أن المشتكي عادةً يُعد شاهدًا، ولا يمكن الإفصاح عن بياناته الشخصية أثناء التحقيق.
وأضاف أن المحكمة ملزمة بموجب الدستور تكون جلساتها علنية، وبالتالي سيُكشف اسم المشتكي أو الضحية عند عرض القضية، لكن إذا تعرّض لضغط أو تهديد، يمكنه تقديم شكوى واتخاذ إجراءات حماية إجرائية مثل سماع الشاهد عن بُعد. وأوضح أن القانون لا يتيح للمحكمة إخفاء اسم الشاهد، لأنه يعد دليلًا يجب على المتهم مناقشته بشأنه.
وأشار إلى أن مسألة التأخير في القضايا عادة تتعلق بالوقت اللازم لاستخراج الأدلة التقنية، مثل المراسلات أو الاتصالات على شبكات الإنترنت، ولكن جهات الضابطة العدلية والفنية المختصة لديها القدرة على استخراج الأدلة بسرعة وكفاءة، ولا يوجد فترة زمنية محددة في القانون للمدعي العام للتعامل مع القضايا. قصص الضحايا تعكس حجم خطورة جريمة الابتزاز والاحتيال الإلكتروني، وخطرهما الكبير المهدد للجميع، لكن تجارب النجاة منها أثبتت أن مواجهة المبتز لا تكون بالرضوخ والموافقة على دفع المال، بل باللجوء إلى القانون، والثقة بقدرة وحدة الجرائم الإلكترونية على ملاحقة الجناة سواء داخل المملكة أم خارجها.
(الرأي) – آيات بكر

 

قد يعجبك ايضا