لماذا لا تُصنع هواتف “آيفون” في أميركا؟

27

في عام 2011، ضغط الرئيس الأميركي باراك أوباما آنذاك على الرئيس التنفيذي لشركة “آبل” ستيف جوبز بشأن نقل إنتاج هواتف “آيفون” إلى الولايات المتحدة، وبعد 14 عامًا، يعيد الرئيس دونالد ترامب طرح هذه الفكرة على تيم كوك، الرئيس التنفيذي الحالي لشركة “آبل”.

لكن هذه الفكرة تُظهر واقعًا معقدًا فيما يتعلق بسلاسل التوريد العالمية والمصالح الاقتصادية والتشغيلية الكبيرة التي يصعب تفكيكها، حيث لا تواجه “آبل” مجرد معضلة سياسية أو تعريفة جمركية مرتفعة، بل تصطدم بجدار صلب من التحديات اللوجستية والاقتصادية.

ومن فجوة العمالة الماهرة والتكلفة المرتفعة للإنتاج في أميركا، إلى اعتمادها على شبكة مورّدين آسيوية مترابطة ومعقدة.

وفي هذا التقرير، نكشف أسباب تعثّر فكرة تصنيع جهاز “آيفون” في أميركا، ونوضح الأسباب التي تدفع “آبل” إلى التمسك بالصين، رغم الرياح السياسية المعاكسة.


الحصن اللوجستي الصيني

تتجاوز جاذبية الصين لتصنيع الإلكترونيات مجرد تكلفة العمالة الرخيصة، التي ارتفعت ارتفاعًا ملحوظًا على مر السنين.

وتكمن الميزة الحقيقية في الكم الكبير والنوعية المتخصصة للعمالة الماهرة والخبرة المهنية، لا سيما في أدوات التصنيع المتقدمة والإنتاج الدقيق المطلوب للأجهزة المعقدة مثل “آيفون”، حيث طوّرت الصين هذه الخبرات على مدى عقود.

وتتمتع الصين بشبكة واسعة ومتكاملة لتجميع الإلكترونيات تضم آلاف المورّدين والشركاء، وهي توفر وصولًا فوريًا إلى مجموعة واسعة من المكونات والمواد، مما يسمح بالتوريد السريع والتسليم الفعّال إلى المصانع.

وتُعد “مدينة آيفون” (iPhone City) التابعة لشركة “فوكسكون” (Foxconn)، التي توظف مئات الآلاف من العمال، مثالًا على هذه البنية التحتية الصناعية المتكاملة والمصمّمة خصيصًا، بما في ذلك المصانع والمساكن وخدمات الدعم داخل مقر واحد.

وتتميز البنية التحتية الصينية بكونها مصممة خصيصًا لتصنيع الإلكترونيات بكميات كبيرة، مما يتيح التوسع السريع للعمليات لتلبية متطلبات الإنتاج الكبيرة، ويشمل ذلك شبكات لوجستية ونقل متقدمة.

ويستطيع المصنعون الصينيون التكيّف بسرعة مع التغييرات الهندسية وزيادة الإنتاج بين عشية وضحاها.

وتُظهر العديد من شركات الإلكترونيات الصينية تكاملًا رأسيًا، حيث تتحكم في أجزاء مختلفة من سلاسل الإمداد، من المواد الخام إلى التجميع النهائي، مما يزيد من الكفاءة ويقلل الاعتماد على المورّدين الخارجيين.

واستثمرت “آبل” بكثافة في عمليات الإنتاج الفريدة والآلات المخصصة داخل الصين، وتعمل عن كثب مع المورّدين لضمان معايير جودة دقيقة وتطوير أجزاء مخصصة.

وتُشكّل العناصر والمعادن الأرضية النادرة تعقيدًا إضافيًا لشركة “آبل”، حيث تُستخرج وتُعالج معظم هذه المواد الضرورية للرقائق والبطاريات في الصين.

وتتباهى المنظومة الصينية بالقرب الجغرافي للمورّدين، وتوافر المهارات المتخصصة، والبنية التحتية المصمّمة خصيصًا، والحوافز الحكومية.

وبالتالي، فإن محاولة تكرار هذه المنظومة لا تعني مجرد بناء مصنع، بل إعادة إنشائها بالكامل، ويشمل ذلك إعادة بناء عقود من العمليات المخصصة وآليات مراقبة الجودة الحيوية لعلامة الشركة التجارية.


العقبات الاقتصادية

يؤدي نقل إنتاج “آيفون” إلى الولايات المتحدة إلى ارتفاع كبير في الأسعار على المستهلكين. وتشير التقديرات إلى أن “آيفون” المُصنّع في أميركا قد يصل سعره إلى 3 آلاف دولار.

وتفتقر الولايات المتحدة إلى القوى العاملة الضخمة والمتزامنة اللازمة لتجميع الإلكترونيات بكميات كبيرة. وتوظّف المصانع الصينية مئات الآلاف من العمال القادرين على زيادة الإنتاج موسميًا لإنتاج مئات الملايين من الأجهزة سنويًا.

وتعد تكلفة عمالة التجميع في الصين أقل بكثير لكل “آيفون” مقارنةً بالتكلفة للعمل نفسه في أميركا. وبالإضافة إلى الأجور، هناك فجوة في المهارات، لا سيما في الوظائف المتخصصة مثل هندسة الأدوات.

وطوّرت الصين خبرة واسعة على مدى عقود، في حين أدت عقود من إهمال التصنيع في الولايات المتحدة إلى افتقارها الكبير إلى المهارات المطلوبة.

ويتطلب تصنيع “آيفون” في أميركا إعادة بناء منظومة محلية كاملة من مورّدي المكونات، وهي مهمة شبه مستحيلة، حيث إن البنية التحتية الأميركية ليست موجهة نحو التصنيع الكثيف المتخصص مثل الصين.

وتتطلب إعادة إنشاء هذه البنية التحتية المتكاملة عقودًا واستثمارات مالية كبيرة، وفشلت المحاولات السابقة لإعادة التصنيع في الولايات المتحدة إلى حد كبير.

وأعلنت شركة “موتورولا” عام 2013 رغبتها في تحدي الاعتقاد السائد بأن التصنيع في الولايات المتحدة مكلف، ولكن بعد 12 شهرًا، أُغلقت المنشأة بسبب المبيعات المخيبة للآمال والتكاليف المرتفعة.

كما أن التكلفة الإجمالية للتصنيع في الولايات المتحدة تتجاوز بكثير مجرد تكلفة العمالة لكل وحدة، حيث تشمل تكلفة تطوير شبكة مورّدين غير موجودة، وبناء بنية تحتية متخصصة من الصفر، وتدريب قوى عاملة جديدة، والتكلفة البديلة لأوقات الإنتاج الأبطأ.

وهذا يعني أن تكاليف إنشاء منظومة مماثلة تجعل الأمر غير مجدٍ اقتصاديًا، مما يؤدي إلى زيادة كبيرة في السعر النهائي للمنتج.


التعريفات الجمركية

تؤدي التعريفات الجمركية الأميركية إلى زيادة مباشرة في تكلفة المواد الخام لمنتجي الإلكترونيات، مما يقلل الأرباح. وغالبًا ما تُنقل هذه التكاليف إلى المستهلكين، مما يساهم في ارتفاع أسعار المنتجات.

ورغم التعريفات الجمركية، فإن إنتاج “آيفون” في الصين يظل أرخص بكثير منه في الولايات المتحدة، حيث إن تكلفة “آيفون” المجمّع في الصين، حتى مع التعريفات، لا تزال أقل بكثير من تكلفة “آيفون” المصنوع في الولايات المتحدة.

ولا يمكن للتعريفات وحدها التغلب على المزايا الصينية من ناحية البنية التحتية المصمّمة خصيصًا، وشبكات المورّدين المتكاملة، والقوى العاملة المتخصصة.

وتفتقر الولايات المتحدة إلى عقود من الاستثمار الموجّه من الدولة الذي بنى هيمنة الصين التصنيعية، ويتطلب اللحاق بالركب استثمارًا كبيرًا ومستدامًا.

وبدلًا من إجبار الشركات على نقل التصنيع إلى الولايات المتحدة، أدّت التعريفات إلى تحفيز الانتقال إلى دول أخرى منخفضة التكلفة خارج الصين، دون التخلي عن مزايا الإنتاج الآسيوي.


“صُنع في أميركا”

يواجه طموح “صُنع في أميركا” لهواتف “آيفون” حقائق لوجستية واقتصادية لا يمكن التغلب عليها، إذ إن المنظومة التصنيعية الصينية متجذّرة بعمق.

وتتميز هذه المنظومة بمدًى واسع، ومهارات متخصصة، وشبكات مورّدين كثيفة، وبنية تحتية مصمّمة خصيصًا، وتقدّم مزايا استغرقت عقودًا لتتكون، وتُعد مسألة تكرارها في مكان آخر أمرًا مرتفع التكلفة بشكل كبير.

وقد تترجم تكاليف إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة، المدفوعة بارتفاع أجور العمالة، وغياب سلسلة إمداد مماثلة، والحاجة إلى استثمارات كبيرة، إلى أسعار أعلى بكثير على المستهلكين ومليارات الدولارات من النفقات لشركة “آبل”.

كما أن هيمنة الصين التصنيعية على منتجات “آبل” ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة تراكم عقود من الاستثمار العميق والتكامل، إذ استثمرت “آبل” بعمق، وساعدت المورّدين على التطور، وصممت عمليات مخصصة، ودمجت ملكيتها الفكرية.

ويُعد الوضع الحالي نتيجة مسار تاريخي طويل ومعقّد لا يمكن عكسه أو تكراره بسهولة في مكان آخر، إذ إن سلسلة الإمداد العالمية للإلكترونيات ليست نظامًا بسيطًا وقابلًا للتبديل، بل إنها شبكة متأصلة بعمق، ومتخصصة للغاية، وتطورت تاريخيًا.

ختامًا، فإن نقل تصنيع “آيفون” إلى الولايات المتحدة ليس مستحيلًا، ولكنه غير عملي في الوقت الراهن من الناحية الاقتصادية واللوجستية، حيث من الصعب تفكيك المنظومة التي بنتها “آبل” على مدى عقود في آسيا دون تكاليف باهظة وتأثيرات سلبية في الكفاءة والربحية.

قد يعجبك ايضا